إنها ثورة مدنية رغم الدم والموت.. والفساد! ـ مطاع صفدي
العدو الأول للعالم الثالث هو الفساد، بل لعل الفساد هو علّة العلل العربية قاطبة. فهو المرض العُضال الذي يتهدد كل الأصحاء بالعدوى الوبائية. لا يكتفي بالمزيد كل يوم من منسوب ضحاياه، بل يكاد يضع أهم النخب الإجتماعية في عداد صَيْده واقتناصه. فالسياسي أصلاً لا يولد ويتطوّر ويبرز وهو فاسد، لكنه قلما يمتلك قوى مناعة فطرية ضد الوباء العام. هل نحكم سلفاً أن كل سياسي مرشح للعدوى القاتلة، بيد أن السياسي الذي أُفْسِد، ستُكتب له حياة أخرى، بعد أن قتل الشخص الأخلاقي في ذاته. وخلال هذه الحياة الجديدة، سيكون عليه مكافحة فضيحته بوسائل فساده عينها، ومضاعفة أفاعيلها. عندها يصير السياسي الفاسد طاغوتاً مستبداً تنقلب علاقته بالجمهور إلى علاقة سيد بعبده.
السياسي الفاسد ديكتاتور بالضرورة والاختيار معاً، فسادُه يحميه استبدادُه. فهو مضطر للعنف، لكنه مرحب به عملياً، وسعيد بإنجازاته. فإذا كان لا بد من العيش في ساحات الوغى والدم، فلا أقل بالنسبة للسياسي الأريب أن يكون هو القاتل أو الجلاد من أن يكون هو المقتول أو الضحية. ذلك أنه في مجتمع القتل وحده قد يغدو (النصر) من نصيب القاتل، والهزيمة للمقتول وحده. هذه الجدلية الحمراء ليست من مَكْر التاريخ فحسب، بل هي فلسفة الظلم في كل عصر إرهابي ـ وهل من عصر لا إرهابي ـ والأنكى من هذا أن فئات المظلومين قد يعتبرون بنظر البعض شركاء لطُغاتهم ما داموا خاضعين لهم، كأنهم يتحملون شيئاً من المسؤولية عن بؤسهم. لذلك عندما تحين ساعة الرفض الجماعي للحال المتردية والمزرية للجموع الأكبر من البائسين الخاضعين، يمكن إعادة توزيع المسؤولية بطريقة أخرى، إذ يصبح المظلومون المنتقضون هم المسؤولين وحدهم عن مصير الجماعة ككل بمن فيهم الطغاة أنفسهم.
ثوارنا الشباب يعرفون منذ لحظة البداية أن الطغيان والفساد متكاملان، وأن (المبادئ السياسية) المعلقة فوق رؤوس الأشهاد جميعاً لم تعد كافية لتسويغ واقع مضاد لأبسط دلالات تلك المبادئ؛ فالطغيان يتجاوز طبيعته الأولى، في العدوان الوقح على حقوق الآخرين، كل الآخرين، وحرمان الجميع من عقولهم وألسنتهم، والدوس على كرامتهم يومياً، جملةً وتفصيلاً. ما يعنيه تسلط الواحد الأحد ليس إلغاء كل ما هو جماعي فحسب، بل هو إفراغ المدن من سكانها والإبقاء فقط على أشباحهم في بيوتهم السابقة.
مجتمعات الاستبداد، ينبغي لها ألا تميز بين رجل الطغيان ورجل الفساد، خاصة بعد ثورات الربيع العربي، واختطافاتها المتلاحقة وغير البريئة من التشويه والتحريف والاستغلال. ما نريد أن نلح عليه هنا أنه مثلما تعلَّمنا من مجتمعاتنا الفاسدة تلك أن كل سلطة شاذة تريد أن تجعل من مجتمعها كوناً شاذاً كذلك على مثالها، فقد صار علينا أن نتعلم كذلك أن الثورة، هي عينها، المنتفضة على الظلم والعسف، لن تكون في منأى عن الضلال الذي نكافح مظاهره السابقة، وفي هذه الحال يكتشف الشباب فجأة أنهم باتوا ينتمون إلى ثورة معطوبة، أو أنهم قد انجروا إلى.. بؤرة أخرى، لا يعرفون لها اسماً ولا عنواناً بعد، وإن كانت لا تزال تتشدّق بشعارات وطقوس الثورة الأصلية.
إذن، وكما يحدث في التاريخ دائماً، هناك ثورات يمكن لها أن تُختطف، فتصبح شيئاً آخر مختلفاً عن كيانها الأول، وقد لا ينتبه للتغيير الفجائي إلا بعضُ رجالها، عندئذ، إما أن يتوقف التحريف أو يحدث الانفصال فالانقسام. تولد هكذا ظاهرة التشرذم المنتشرة في ساحاتنا كلها، خاصة في مجتمعات السياسة والثقافة، واليوم تصاب الثورة بعدواها، فهي في الأساس ليست وليدة تنظيم، ولا حتى عدة تنظيمات، بل لقد جاءَها هذا الشباب والفتيان من كل حدب وصوب، كان الشارع أو الميدان هو المنادي الأول، وعنده التقى كل الأشباه والمختلفين أيضاً، ولكن في حال الثورة السورية التي انتقلت إلى جبهات قتال عسكرية بكل معنى الكلمة، برزت التجمعات والفئويات والتنسيقيات المسبقة أو اللاحقة، لم تستطع الحرب ولا ضراوة الصراع مع (العدو) أن تفرض على شتات المقاتلين وتسمياتهم المتناسلة عن بعضها، وضد بعضها، أن تفرض انضباطاً عسكرياً جامعاً. حتى (الجيش السوري الحر) فإنه لا يزال أقرب إلى التعدد المتباين منه إلى التنوع المنسجم، ما يجعل قادة الفصائل فيه تنشغل بأوضاع مراكزها أحياناً أكثر مما تثيرها مصائرُ المعارك والرجال على الأرض، فلم يعد مستغرباً أن يسمع المدنيون السوريون عن جبهات تُفتح أو تغلق هنا أو هناك باسم هذا الفصيل الجهادي أو السلفي، أو ذاك. هذا التشتت (النضالي)، قد يبدأ عفوياً، ونتاجاً لواقع قائم، لكنه سرعان ما يُعاد إنتاجه على شكل منظمات وفصائل وحزبيات، وكل منها تستظل بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، وتطلق أحكاماً شرعية أو فتاوى اجتماعية.. هذه صفحة ليست بيضاء تماماً من الوقائع اليومية لثورة سورية، لكنها في الوقت عينه صفحة طافحة بأعظم البطولات والتضحيات، عشرات بل مئات من الشهداء والجرحى والمعاقين تخلّفهم وراءها يومياً هذه الجبهات اللامحدودة، تسلمهم إلى غياهب المجهول، لا أحد سوف يعرف عنهم شيئاً. مهما يقال عن مستنقعات الأضاليل التي تقع فيها عادة قصص الأحداث الكبرى، من مثل هذه الثورات التي تطيح بأهرامات الفساد على أنواعه، لكن ديدان المستنقعات تعلق بأطراف ثيابها وهي تمر بها. هناك في الجبهات من يُقتل ويموت، وفي المقلب الثاني من المشهد، هناك البعض من أساطين الاستراتيجيا الدولية من يحصي التوابيت الفارغة لاستقبال الصيد اليومي. هؤلاء الدوليون من عرب وأجانب، لا يتقنون فنّ التخطيط وحده، إن لم يضمنوا مقدماً ألا يأتي التطبيقُ بما سيفوق تصوّرَه في مخيلتهم. فمن كان يعتقد، على سبيل المثال، أن رؤوس الفساد السياسي والمالي هم أنفسهم يصيرون وحوش القتل الجماعي، كيف يمكن لنظام حاكم في ذروة القرن العشرين وملتقاه مع الواحد والعشرين، يمكنه أن يستلب جيش دولته، وأن يجعله يدك بمدافعه وطيرانه الآلاف من بيوت المدن والبلدات، ويدمر الجوامع والكنائس، أن يبيد أحياء من مدن وقرى كاملة، أن يمحو حضارة الشام..
ليس هذا كابوساً أسطورياً، لكنه واقع مستمر منذ سنتين، وكانت له كل مقدماته البائسة خلال العقود الخمسة السابقة، والأفجع في هذا الواقع أنه متمتع بقدرة خارقة على الاستمرارية، بحيث يمكنه أن يؤجل دائماً نهايته كلما لاحت لها تباشير معينة قريبة. ما يفعله طاغوت الفساد هو أنه مستميت إلى درجة الوحشية المطلقة في الدفاع عن فساده الذي أصبح معادلاً لبقائه ووجوده.
ههنا بات للفساد مضمون آخر، وهو أنه لا يكدس أموالاً، بل أمواتاً وجثثاً، لم يعد الديكتاتور مجرد سارق كبير لثروات بلاده وشعبه ، كان ذلك تمريناً متنوعاً على ممارسة فنون اللصوصية العمومية لحساب أحاديات السلطة والنفوذ، لكن الديكتاتور ينقلب وحشاً ضارياً ما أن يستشعر خطراً مداهماً يتهدد ديمومته. فاشتهاء الأموال، يصاحبه/ أو يصير إلى اشتهاء، اللحم والدماء، في زمن الحروب الأهلية.
كان رهان الفساد السوري الأعظم هو في إكراه الثورة على التحول إلى الحروب الأهلية. والحاضر الراهن كأنه يعد العدة لمرحلة انتقالية نحو المقتلات البشرية المتبادلة والعبثية: هنالك العديد من نماذج هذه المقتلات المتوزعة جغرافياً وإجتماعياً، لكنها فشلت حتى الآن في تفجير مستوى الحقد الأكبر الأعمى الذي يمكنه أن يحرق الأخضر واليابس. فالثورة قد تعترف أنها لم تكن مبرأة تماماً من أشباح أو أطياف الانتحارات الأهلوية، هذا صحيح إلى حد ما، لكن بالمقابل تمكنت الثورة حتى اليوم من المحافظة على خطوط الفصل والتماس ما بين محبة الحرية وشهوة الدم. ولعلها سوف تتقدم في موقعها الدقيق ذاك حتى يوم النصر القريب.
أما رهان الثورة، فهو أنها سوف تظل في جوهرها، في أسبابها وأهدافها الأخيرة، ثورة مدنية من أجل الحرية والعدالة والمحبة، وإن تكلّفت آلاف الضحايا التي يقتلها وحش الفساد، حتى يقتل نفسه أخيراً بيده أو بيد أعدائه.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
2013-04-07 ـ القدس العربي