الخوض في المناطق المحرّمة ـ ماهر الجنيدي *

مقالات 0 admin

منذ 1948 وحتى اليوم، عاشت أجيالنا العربية مراحل صراع عديدة مع «الكيان الغاصب»، حُسمت فيها المعارك ميدانياً لصالح «ربيبة الإمبريالية»، استيطاناً واحتلالاً وتدميراً وتقسيماً ومجازر. لكنّ الأهم أنها حُسمت استراتيجياً لصالح دولة ديموقراطية عصرية، نجحت في استقطاب يهودٍ من روسيا إلى أميركا، ومن بولونيا إلى أثيوبيا، ومن العراق وسوريّة إلى مصر والمغرب واليمن، وإيجاد معادلات وحلول لتناقضاتهم الثقافية والاجتماعية، وضمان أمنهم، وإدارة اقتصادهم وحياتهم المشتركة، في «دولة مزعومة» يفترض أن يحيط بها أعداؤها من كل جانب، وتتربص بها دوائر الأمة العربيّة الواحدة ذات الرسالة الخالدة، الأمة الممتدة على مساحات العزّ والسؤدد والماضي المجيد، من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر. كما نجحت «دويلة العصابات» في تكريس موقعها السياسي في شرق أوسط مضطرب على مدى خمس وستين سنة، حتى باتت الأقدر إقليمياً على مخاطبة الرأي العام العالمي، وشرح مواقفها وهواجسها، وبالتالي كسب التعاطف الدولي مع رؤاها وطموحاتها، وحشد الدعم العالمي لخططها واستراتيجياتها والدفاع عن أمنها.

في المقابل، تبدو الحصيلة الإجمالية على الطرف الآخر مظلمة تماماً، إذ لم تفلح الدول العربية في الذّود عن حياض الأوطان، وفي صون الشعوب من المجازر والتشريد، وفي حماية الديار من الدمار المادي والمعنوي، كما فشلت في بناء اقتصادات متينة تواكب العصر وتحقق التنمية وتعالج المشاكل الاجتماعية والديموغرافية المتفاقمة، وأخفقت في إيجاد صيغ مدنيّة إنسانية عصرية للمسائل الثقافية والإثنية التاريخية فيها، بل في تكريس أبسط مفاهيم «المصلحة الوطنية العليا» بمعناها الحقيقي لدى مواطنيها. ومن هنا، راهن الكثيرون من أنصار الربيع العربي، سراً وعلانية، على أن تفتح حقبة الربيع العربي صفحة جديدة في معالجة قضيّة الصراع مع إسرائيل، يتمكّن فيها الشباب العربي، مدعوماً بديناميكيته وبراغماتيته، من إعادة رسم ساحة الصراع بعيداً مما كرسته الأنظمة من أوهام وشعارات ومنهجيات لم تفعل شيئاً سوى تكريس الاستبداد المطلق والفساد الشامل، وتعميق الشرخ الاجتماعي تحت غطاء عبارات وطنيّة جوفاء أسمنَتْ ولم تغن من جوع، مثل: «الوحدة الوطنية»، و «التوازن الاستراتيجي»، و «الممانعة»، فضلاً عن «حرب التحرير الشعبية» و «كل شيء للمعركة» و «صراع وجود لا صراع حدود». غير أن هذه المراهنات لم تبرهن على صحّتها حتى الآن بعد مضيّ أكثر من سنتين على بدء الربيع، وذلك جرّاء عوامل عديدة، لعلّ من أبرزها فرملة الربيع العربي عند أبواب دمشق، بسببٍ من التشابك الجيوسياسي المتفاقم باضطراد، فضلاً عن إخفاق القوى الفائزة في انتخابات الربيع العربي عن مواكبة رؤى الشباب الثائرين والارتقاء إلى طموحاتهم، وتقاعسها الانتهازي الفئوي عن إيجاد رافعة سياسية دستورية مدنيّة تحتضن انطلاقة الشباب وتحميها، الأمر الذي أعاد مهمّة «رسم ميدان الاشتباك» مع إسرائيل إلى دُرج المسائل المستحكمة المحظورة المحوطة بأسواط العار والخيانة والارتهان للأجندات، وجعلها مستنقعاً يلوّث من يخوض فيه، وموضوعاً شائكاً يؤذي من يتصدّى له.

لا يبدو من القوى السياسية الفائزة بانتخابات الربيع العربي، الإخوانية منها تحديداً، ما يشي بأنها بصدد الكفّ عن استخدام «عدّة النصب» الديكتاتورية هذه، لكن بنكهة إسلاموية. كما لم يكن مرجّحاً من القوى السياسية الخاسرة، القوموية واليسارويّة منها تحديداً، أن يضرب صفحاً عنها. السلوك غير المستبعد من مثل هذه القوى مجتمعة، التي تمثّل بشكل أو بآخر جزءاً غير سلطوي من الأنظمة الآفلة.

فمنذ خمسة وستين عاماً وحتى اليوم، تساعدت الأيديولوجيات القوموية واليساروية والإسلاموية في سرديّاتها، إعلامياً ودعويّاً، في السلطة وخارجها، على رسم مسرح الصراع مع إسرائيل وفق أولويات الحفاظ على الأنظمة، وصياغة ذهنية «الجماهير» صياغةً تزلق استحقاقات العصر الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والثقافية إلى أسفل ترتيب الأولويات، ليكون الاستبداد والتخلف واستفحال المشكلات هو الثمرة الأساسية الأولى لهذا العمر المديد من الصراع، فيكون الخياران الوحيدان المتاحان في هذا الصراع هما: الأجندة الإسرائيلية أو أجندة الأنظمة. وإذا كان الربيع العربي يعِد بوأد «عدّة النصب»، والاستعاضة عنها بإعاة قراءة مسرح الصراع، ابتداء من تعريف العدوّ، وتحديد ملامحه ومتغيراته، وصولاً إلى صياغة استراتيجيات المواجهة، بما يتضمن تحديد الأولويات وفق مصلحة المجتمعات والمواطنين، فإنه بحاجة إلى كسر محرّمات التفكير بالمحظور. الأمر الذي يتطلب من القوى الجديدة، قوى ثورات الربيع العربي، أن تفصح عن تعبيراتها التنظيمية والفكرية والسياسية، فمن شأن تحليل شبابي جديد ومعاصر لطبيعة الصراع مع إسرائيل، أن يكشف عن المتحركات الحقيقية في مكمن عدوانيتها وجوهر سياساتها، ويضعها في السياق الذي يتناسب مع واقع المعضلات المستفحلة التي تواجهها مجتمعاتنا. لنبدأ بالاعتراف بأن «الدولة العبرية» لم تعش يوماً -منذ تأسيسها- تحت خطر زوالها، وأنها حققت تقدماً لافتاً من حيث تجاوز المآزق الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تنتظرها، وتفوقاً علمياً وتكنولوجياً وعسكرياً لا يقاس مع أحوالنا المتردّية في مطالع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ولنقرّ بأن الأنظمة الاستبدادية العربية شكّلت قوقعة حماية لتلك الدولة، وخط دفاع أماميّاً عنها، من خلال سرديّة مريحة لتفاصيل الخصومة، ومن خلال فساد استشرى في البنى الاقتصادية والإدارية لبلادنا، بل وحتّى في البنى العسكرية «الممانعة» التي تكشّف أنها لم تكن فاعلة إلا في وجه شعوبنا.

إنها حقبة الربيع العربي المبشّرة التي ما زالت في بداياتها المتعثرة، والتي يبدو وكأنها تنتظر حدثاً سعيداً دمشقياً ما، لتقطع مع السرديات السائدة وتبتّ فيها وتطرح البديل، الذي يصيب إسرائيل حقاً في مقتل عدوانيّتها، عوضاً عن حمايتها لخمسة وستين عاماً آخر، بأوهام دعائية وإعلامية وشعاراتيّة أخرى، كما فعلت منظومات الاستبداد الممانع.

* كاتب سوري

 الحياة ـ ١٠ أبريل ٢٠١٣

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة