هل يكون لبنان الخاصرة الرخوة للثورة السورية؟ ـ عمر قدور

مقالات 0 admin

فيما مضى درج مسؤولون سوريون على القول بأن لبنان هو خاصرة سوريا الرخوة. وكان ذلك يضمر دائماً تبرير الوصاية عليه، من منطلق عدم قدرة الدولة اللبنانية على فرض نفوذها على الفرقاء اللبنانيين. كرّس النظام السوري هذه المقولة، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، ليوحي بأنها لم تنتهِ حقاً، أو ليذكّر بأنها قابلة للاشتعال في أي وقت، وليغذّي لدى السوريين الخوف من “هشاشة” لبنان، ويطعن في الوقت نفسه في صورة الحريات المتوافرة فيه.

“كثير من الحرية.. كثير من الفوضى”؛ هذه هي المعادلة التي دأب النظام على تكريسها في العقول، مستغلاً، كالعادة، موضوع الصراع مع إسرائيل للإجهاز على الحريات أينما أتيح له، وأينما أتيح لأجهزته الأمنية أن تضرب. وبالطبع، كان لبنان المستهدف الأول، لأنه منذ استقلال البلدين شكّل الخاصرة الرخوة بحق، ولكن الخاصرة الرخوة لمشروع الاستبداد في سوريا. هكذا كانت الحرب اللبنانية، في أحد وجوهها، إيذاناً بدخول الاستبداد طوراً لم يكن ليبلغه وفق الديناميكيات الداخلية وحدها. ومن ثم أتت مواجهة الثمانينيات مع الإخوان المسلمين على طبق من ذهب، ليعزف النظام على طائفية تلك المواجهات، مذكّراً السوريين بالجرح اللبناني النازف آنذاك، وليُحكم أكثر فأكثر سيطرته الأمنية على الداخل.

في الواقع، ولنكون منصفين، لا ينبغي أن نتجاهل دور بعض الأطراف اللبنانية، كلٌّ من موقعه ووفق حساباته الضيقة، في صناعة هرم الاستبداد السوري. فقد كان الإمساك بالملف اللبناني شرطاً من الشروط الأساسية للإمساك بتلابيب السوريين، ومظهراً أساسياً من مظاهر قوة النظام في الخارج، واستقوائه على السوريين في الداخل. لقد كانت النجاحات الخارجية للنظام، والتي مرّ معظمها من البوابة اللبنانية، تعني دائماً مزيداً من الهيمنة على الداخل، وتغطية لها بالإيحاء بأنها تُضاف إلى الوزن الإقليمي للبلد ككل. وفي مرحلة متقدمة، عانى اللبنانيون من الوضع ذاته، إذ أصبحوا رهينة لدى النظام، وراح يساوم بالورقة اللبنانية لاكتساب مواقع نفوذ إضافية في دول أخرى، أو العكس، كما حدث في العراق، منذ احتلال صدام للكويت والحروب التي تلته.

غير أن الطامة الكبرى على الشعبين تجلت دائماً في استغلال الصراع مع إسرائيل، فاستخدام تعبير “الخاصرة الرخوة” عُني به أصلاً ضعف لبنان أمام الاعتداءات الإسرائيلية، قبل أن يتحول ذريعة لاعتداءات النظام. لهذا كانت ذريعة المقاومة محورية في إطالة أمد الاستبداد، ومن المرجح أن ذلك لم يغب يوماً عن بال الأسد الأب، فلم يكن تكريسها في ميثاق الطائف، إلا انتقاصاً مبكراً من فكرة الميثاق نفسه، وتقييداً لسيادة الدولة اللبنانية في أمور الحرب والسلم، فضلاً عن حصر شؤون المقاومة بفريق لبناني واحد. وكما نعلم لم يختلف الأمر كثيراً غداة انسحاب قوات النظام من لبنان، إذ تكفل فريق من اللبنانيين بإعاقة انتفاضة الاستقلال، وبإعادة مشروع الوصاية عبر إعاقة الدولة اللبنانية، أو عبر التهديد بالسلاح عندما اقتضى الأمر.

إن التهديدات بإشعال المنطقة، التي أطلقها النظام مع مستهل الثورة السورية، لم تكن لتؤخذ بعين الاعتبار لولا الحلفاء اللبنانيين، فإشعال المنطقة يعني أولاً إشعال الساحة اللبنانية. ولولا الضغوط والتفاهمات الدولية الكبرى، لكان اللبنانيون الآن في أتون الفوضى والانفجارات، وحينها لن يكون المخطط الفاشل لـ”مملوك/سماحة” سوى إنذار متواضع. فحوى التهديدات، والذي يخصّ اللبنانيين مباشرة، هو إما السماح للنظام بالقضاء على الثورة، مهما تطلب ذلك من وحشية وإبادة، وإما تفجير الوضع اللبناني برمته. ومن المؤسف أن ينطلي التهديد على شريحة واسعة من اللبنانيين، تقبل بأن يكون ثمن استقرارها المزيد من دماء شعب آخر، أي أنها تقبل بأن ترهن مصيرها مجدداً لنظام الوصاية.

مع الأخذ بالحسبان حساسية الوضع اللبناني، وحساسية اللبنانيين تجاه ما يذكّرهم بالحرب الأهلية، إلا أن انتظار الاستقرار كهبة من النظام وحلفائه المحليين هو بمثابة خدعة للنفس، بل هو أقرب إلى الخضوع لمنطق الابتزاز. ذلك المنطق الذي أودى بانتفاضة الاستقلال، مثلما أودت بها الحسابات الضيقة والصغيرة. وبصرف النظر عن أخلاقية أو عدم أخلاقية سياسة النأي بالنفس، التي توافق عليها قسم كبير من النخبة السياسية اللبنانية، فهذا العنوان كان مطلباً لحلفاء النظام، بشرط أن يلتزم به خصومهم فقط، بينما يحتفظون لأنفسهم بحرية الانخراط الحثيث في محاصرة الثورة السورية لبنانياً، وفي محاربتها داخل الأراضي السورية. هم أنفسهم مَن انقضوا على انتفاضة الاستقلال في لبنان بدأوا باكراً بإرسال مقاتليهم للانقضاض على الثورة في سوريا، والأبواق المأجورة ذاتها التي كانت تطعن في أهلية اللبنانيين واستحقاقهم للحرية، وبعضها وضع آنذاك قيد التحقيق أو المحاكمة، هذه الأبواق لم توفر جهداً من أجل الطعن بالسوريين من دون رادع أو رقيب.

طوال أكثر من سنتين لم يتوقف الشق اللبناني من نظام الوصاية عن إثبات وحدة المسار، لا تلازم المسارين كما كان يُشاع، وليس من باب المبالغة القول بأن الشق اللبناني بات الأكثر تماسكاً وقوة بعد الضربات التي تلقاها النظام الأمني في سوريا، فصار لزاماً أن يتدخل الاحتياطي اللبناني بشكل مباشر في الحرب. على العكس مما تفترضه الأسبقيات، يبدو نظام الوصاية الآن أقوى في بيروت مما هو عليه في دمشق، وليس بهذا المعنى وحده يكون لبنان خاصرة رخوة للثورة السورية، فالمغزى العميق هو في قدرة حلفاء النظام على نقل الحرب الدائرة في سوريا إلى الساحة اللبنانية، إذ ليس من المتوقع أن يمر انخراطهم في الحرب داخل سوريا بلا تبعات على بلدهم الأم. لن تأتي الشرارة كما يتوقع البعض من ردود أفعال يلجأ إليها مقاتلو المعارضة السورية، بل ستأتي لأن مقاتلي حزب الله بحربهم في سوريا يستدرجون إلى داخل الأراضي اللبنانية أعداءهم الكثر، ويستدرجون القوى الخارجية التي لم تعد بعيدة أبداً عن الصراع في سوريا.

لم يكن يوماً استقرار لبنان من عناوين سياسة النظام، لهذا يبدو الأخير وكأنه يقامر بأهم أوراقه، بعد أن أُنهك داخلياً. فالورقة اللبنانية، إذ توضع في حيز الاستخدام المباشر، فذلك سيؤدي إلى جرّ لبنان ككل إلى الساحة السورية. إن فتاوى الجهاد الصادرة مؤخراً ليست سوى قمة جبل الجليد، إذا ما قُيّض للحرب أن تستمر زمناً أطول، وينبغي التذكير دائماً بأن لا مصلحة للشعبين بهذا النوع من تلازم المسارين، وبخاصة لا مصلحة للثورة السورية بقدوم المقاتلين اللبنانيين، وبأن تُخاض على أرض الثورة حروب بالوكالة من أي نوع كان، ذلك على الرغم من إدراك الجميع أن طرفاً لبنانياً معيناً، يخوض حربه هنا بالأصالة عن النظام، بعدما بات طريق القدس بالنسبة إليه يمر من “القصير”.

من المؤسف أن يشكل لبنان تهديداً للسوريين؛ لبنان الذي كان تاريخياً متنفساً لهم على صعيد الحريات وعلى الصعيد الاقتصادي؛ لبنان الذي يليق بأبنائه وتاريخه أن يلعب دوراً مغايراً وأن يخرج من دائرة الابتزاز التي أجبر على الوقوع فيها طوال عقود. لقد تأخر السوريون قبل سنوات عن ملاقاة انتفاضة الاستقلال، لكن الفرصة اليوم قد تكون سانحة ليلاقي اللبنانيون الثورة السورية، على أرضية التخلص نهائياً من النظام الذي يحتل البلدين. يكذب أولئك الذين يقولون إن طريق القدس تمر من القصير، ولكن قد يصدقون لو قالوا: إن طريقهم إلى بيروت باتت تمر من القصير.

28/4/2013 – المستقبل

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة