حرية الربيع ام عباءة الاولين! ـ مطاع صفدي

مقالات 0 admin

في فجر الاستقلال الوطني العربي منذ أواسط القرن الماضي، ظهرت الحركات الدينية على الصعيد الشعبي كمعارضة سياسية ضد التوجه التحرري الذي انخرط فيه العموم الكاسح من مجتمعات المشرق، انطلاقاً من التظاهرات شبه اليومية لجحافل الشبيبة الطلابية في عواصم الشام الكبير. كان العرب العائدون مرة واحدة إلى مسرح التاريخ، يستمدون من تحقق الاستقلال وخروج الأجنبي من أرض الوطن، لأول مرة كذلك منذ ألف سنة، قوة على الحياة لم يعرفها أجدادهم طيلة قرون. تلك الحياة كانت مشبعة بثقة عارمة غير مسبوقة لدى الأولين، بقدرة الإنسان العربي على تحمل أعباء حرية كاملة الشروط الاجتماعية والإنسانية. لم يعد جيل الاستقلال الشاب آنئذ يصبو إلى حرية ممنوعة عليه، بل كان يشعر بأنه بات متملكاً تلك القوة المقدسة التي حُرمت منها كل الأجيال السابقة منذ انهيار الحكم العربي من عواصم المشرق والمغرب معاً. لكن التملك من الحرية قد يشكل العبء الأعظم على أصحابها، إذ تفرض عليهم ـ حريتهم ـ أن ينهضوا إلى مستوى تحديها التاريخي، إنها تطالبهم ببذل الجهود الأعظم المكافئة لوعودها المستقبلية في التغيير الجذري لأسس حياة الناس ووجودهم النسبي الضعيف.

الاستقلال الوطني كان يعني لهؤلاء الشباب ما يشبه الولادة الجديدة لأمة كاملة، فان توجد الشعوبُ حرةً غيرَ مستعبَدة من قبل أجنبي طاغٍ أو قريب مستغل، فتلك هي الحالة الطبيعية التي تنشدها الأمم قاطبة، لكنها هي الحالة الأصعب، وتكاد تكون في التاريخ المحلي والقومي أشبه بالوضع الاستثنائي، وحتى الخيالي في أغلب الظروف البائسة التي سيطرت على ممالك العرب والإسلام المنهارة والمنهوبة والمشتتة. بيد أن جلاء الاستعمار الأوروبي عن القارة الوطنية، جعل شعوبها تواجه الأزمة المطلقة دفعة واحدة، أزمة استعادة الخلق الثاني لكيانها، صار على العرب أن يقرروا هم ما يفعلونه بأنفسهم، بمجتمعاتهم، بمستقبل أبنائهم وبلادهم معاً. إنها حقاً لحظة الانعطاف الدهرية الآتية بالتحدي الأكبر، إنها لحظة انفجار الينبوع الثر الأعمق لانطلاق الإمكانيات البشرية المحبوسة من دهور.

هل نقول ان جيل الاستقلال ربما لم يتمكن من النهوض إلى مستوى هذه اللحظة. هل كان له حقاً أن يستوعب إرهاصات العصر وتحولاته المباغتة قبل أن تلوح بوادرها الملتبسة أو الخطيرة في أفق المرحلة السائدة حينذاك؟ ومع ذلك فلقد جاءت المبادرة من طبيعة الانقسام شبه الطبقي، المتبدي في الواقع السياسي عشيةَ الانتقال إلى ما بعد حقبة الجلاء، كان هناك انشطار سوف يزداد عمقاً وترسخاً بين التيار الشاب الذي يسمي نفسه بالتقدمي، والتيار الآخر الذي سيُوصف بالرجعي. هذا الانشطار سوف يحكم مسيرة النهضة الاستقلالية.. كان الفكر الاجتماعي الشائع عالمياً هو المنهل الجديد لطلائع التقدميين، مقابلَ هذا الفكر يتمترس مصطلحُ التراث، وكان التعامل معه شعبياً خالصاً عبر أشكال التدين اليومي والتقليدي. هكذا تأسست ثنائية انشطارية تحت عنوانيـن واسعين هما: التقدمية والرجعية. وفي ظل الشطر الأول تنامت موجات التسييس تحت يافطات الهوية القومية ومشتقاتها القطرية والمجتمعية، ما سمح باطلاق العنوان الجامع، على تلك المرحلة، باسم اليقظة القومية المنادية بالاستقلال العربي الشامل لجغرافية الوطن الكبير المتآلف مع تأريخية العروبية والإسلامية معاً.

خلال هذه الحقبة المديدة والمفعمة بالأحداث الكبرى المتناقضة، وَلدت ثنائية التقدم والرِدة جدلية شمولية منتجة لمنطق الانتصارات والهزائم معاً، فما من هبة شعبية وراء هدف تقدمي ما إلا وكانت تعقبها انتكاسة قد تصل في حدتها إلى مستوى الكارثة العامة. فـ’الطلائع′ ينشئون الحركات، ويعلنون الأهداف، ويمارسون الأفعال السياسية والثقافية وحتى العسكرية، لكن الهاويات كانت تنتظرهم في منعطفات دروبهم. كان التقدميون يشتغلون تاريخانياً كما يدعون ويؤمنون. وكان الرجعيون بانتظار سقطات هؤلاء، كيما يشتغلوا على حطام الأولين، لينهضوا بما كان يناقض مشاريعهم تماماً، في هذه النواحي الحيوية الثلاث: السياسة والاقتصاد والثقافة.

كانت النكسات، حتى لا نقول النكبات، هي الحائزة أعلى الأرقام الإيجابية لصالحها في كل جردة حساب لمعارك (الأمة) ضد شياطينها الذاتية، أكثر مما هي ضد أعدائها العالميين، أو الدوليين. هذه النتائج المصيرية (المفجعة) لا تخص التطور العربي وحده، فقد يعرفها الغرب الأوروبي منذ أن أنهى ممالك السلطات المطلقة السياسية والدينية، إنه صار يتعامل معها دورياً بعد كل هبة ثورية ونكسة تتبعها، من خلال حكمته القائلة ان اليمين يعتاش على أخطاء اليسار؛ فهل عرف التاريخ يساراً لا يُخطئ أبداً، حتى لا يكون هناك يمين عائد دائماً، بل كان الأمر هو على العكس، أي لا بد لليسار من أن يخطئ، يفشل حتى يكون هناك يمين حاكم دائماً!

غير أن اليمين العربي (المدني) يكاد ينتهي سياسياً، فاقداً لإمكانية استمرار سلطته مستقبلاً، وفي عصر الثورة الربيعية، تتولى التيارات والفصائل الدينية كل المهمات الملتبسة التي عجز ذلك اليمين السياسي عن تحقيقها في سياق النهضة العربية المعاصرة. فكان ذلك اليمين متهماً بمهادنة الغرب والتعايش مع المشروع الصهيوني في السياسة العربية والدولية، كما كان في المجال الداخلي محافظاً على البنى التقليدية للمصالح الفئوية ومبادئ توزيع السلطات والثروات ومراكز النفوذ. أما اليمين الديني الإسلاموي المعاصر، فقد استلب اليسار الكثير من شعاراته النضالية ضد الاستعمار والصهيونية، وذهب فيها إلى أقصاها تطرفاً، لكنه في الوقت عينه حكم على مجتمعاته بالجمود المطلق؛ استلبَ منها حرياتها الشخصية والعامة تحت حجة إعادة الأسلمة، بما يتطلب هذا الشعار من انصباب ذاتية الفرد في قوالب النمطية الطقسية المفروضة والمراقَبة جماعياً.

اليمين السياسي التقليدي السابق كان يحارب التقدمية من خارج تنظيماتها، كان محاصراً في المواقف الدفاعية ضد هجمات التغيير. أما اليمين المتأسلم فإنه ينقض على ثقافة التقدميين، يستلب منهم شعاراتهم الثورية؛ ما يفعله المد الطقسي أنه يكاد يلغي الحدود بين اليمين واليسار، جاعلاً من أفكاره وتنظيماته البدائلَ الغازية لكيانات الطرفين معاً. فقد يبدد الحركاتِ اليساريةَ، يُحيلها إلى شتات مبعثر؛ بيد أنه ينتشل منها أفواج المحنكين من قُدمائها ليصيروا القادةَ المنظمين الأخطر لفصائله الناشطة؛ ما يفعله المد الطقسي بالنسبة لاستمرارية اليمين التقليدي، أنه لا يطرح عليه مبدأ المنافسة أو التحالف إلا من خلال صيغة الاستيعاب التي يمارسها الجديد الحيوي إزاء القديم المهترئ.

المد الطقسي يختطف من اليساريات هدفيتها النضالية الجذرية، مع إحالتها إلى سرديات غيبية مطلقة، بحيث تتعطل كل فعالية عملية لها على الأرض إزاء (أعداء الأمة)، كما أن المد الطقسي يستلب من اليمين السياسي التقليدي الخلاصاتِ التاريخانيةَ لتجاربه في الحفاظ على شكليات كل ما هو تراثي مجرداً عن كل بعد تنموي مستقبلي في مضامينه الحيوية المتبقية.

في لحظة الربيع الثوري، يكتشف الطقسي أنه يواجه فرصته التاريخية الفريدة، إذ أنه يمكنه أن يكتسح كل الساحات، أن يُبطل فيها كل أدوار الفاعلين، يحيلهم إلى هامشيين أو أتباع، أو ضحايا منسيين.

مهندسو المد الطقسي ينتهزون وقائع الثورة العربية الجديدة، يعلمون مسبقاً أن الثورة ليست لهم ولا هي منهم، وقد تكون الوبالَ الأكبر عليهم، إن لم يستبقوها إلى استراق أهدافها المعلنة، وإن كان ذلك استباقاً زائفاً؛ بل إن جهدهم الأعظم هو في إجهاض الثورة من معظم مضامينها، سياسياً اجتماعياً وإنسانياً. خلافُهم المركزي مع الثوريين هو حول الحرية، هل هي منحة علوية، أم معطى إنساني، أي أداة للتغيير نحو ما هو أعدل وأرقى وأوفى بحقيقة الإنسان والمجتمع والتاريخ. فحين تظل الحرية مجرد منحة علوية، لا يمكن للبشر أن يستخدموها لصالح سعادتهم وتقدمهم إلا بما تريده لهم قوى الغيب وحدها. وهي لا يعرفها إلا الراسخون في العلم ـ أي ما يتخطى العلم ويعلوه..

لماذا نهض الربيع العربي بشعار واحد لا يتخطى لفظة الحرية، لأن المشاريع النهضوية المعلنة منذ الاستقلال تناست خلال صراع التقدم والتخلف، ما يعنيه الفرد الإنساني الكريم عند نفسه أولاً. فقد طُمست أسماءُ الأفراد تحت مصطلحات الشعارات وكلماتها الكبيرة. لم يعد يُعرف الفردُ باسمه أو ذاته إن لم يرتبط بفصيلة عمومية بشكل ما. وإذ يجيء التدين بجحافل المد الطقسي، فإنه يتوج تاريخاً مديداً من استلابات الشخصية الإنسانية تحت التوصيفات المجردة المتوالية.

المجتمعات العربية لم تعرف الحرية منذ دهور، وعندما منحها تاريخُها المعاصر لحظةَ الحرية الربيعية أخيراً، راحت تواجه أعنف طغيان نظامي مؤدلج لا تفرضه أنظمة سياسية حاكمة، بل هو ذلك الطغيان الشفاف الذي يتطوع في الدخول تحت كنفه قطعانٌ من الناس انصياعاً واختياراً ملتبساً، وقد يكون هو رهان النهضة الأصعب. ربما سوف تسقط الأنظمة السياسية الباغية من قمم الدول، لكن الرحلة الشاقة هي التي لم يقرر الإنسان العربي بعد أن يشرع في السير على دربها، ذلك يتطلب أولاً منه التخلص من طاغوته السحري المختبئ وراء جمجمته.. عندما يمكنه أن يكشف له وجهاً واحداً على الأقل، فيزيحه عن كاهله، وإلا فالتحالف الصامت بينهما لا نهاية له.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي ـ  APRIL 28, 2013

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة