لا يزال عند سوريا ما تعطيه ـ منح الصلح

مقالات 0 admin

لعبت سوريا ولا تزال منذ العهد العثماني دور القاطرة الأمامية في سكة حديد التقدم القومي العربي. وكأن العروبة أصبحت شبه دين لقطاعات واسعة من شعوبها أبرزها الشباب وجدت في دمشق منطلقاً لها بل مطلاً على العالم العربي كله وكأن العصر الأموي الممتد في زمانه حتى الأندلس ما زال حياً في النفوس وكأن العروبة التي كانت دمشق شعلتها وناشرتها ما زالت تتطلع الى سائر أقطار العروبة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وها ان الأمة هي هي الجاهزة بكل ارادتها وحماستها لتخوض دورها مع كل البررة من أبناء العرب.

وهل صحيح ان الطبقة السياسية في سوريا ولبنان في عهد الانتداب الفرنسي عليها كانت أرقى سياسياً من الطبقة السياسية التي حلت محلها في الزمن الذي نعيشه اليوم. ان هذه الظاهرة التي عاشها الشعبان السوري واللبناني تريدها في ايامنا هذه قطاعات واسعة من الشعبين الشقيقين مثلما كانت في الماضي. لقد كان النجاح في اقتلاع السلطتين الفرنسيتين في البلدين خير شاهد على العمل السياسي الذي كان يسير الشعبين لمدة غير قصيرة.

والواقع ان الذكاء الذي اتسمت به الحركة الوطنية في كل من البلدين كان من الألمعية بحيث ان شرائح واسعة من الفرنسيين لاحظت هذه الظاهرة الواضحة سواء في لبنان وسوريا، فجاءت الكتابات والتقارير التي تظهر في الصحف الفرنسية وغير الفرنسية وكلها يؤكد البراعة عند الوطنيين في مقابل التخلف في العقل السياسي الفرنسي الانتدابي. كانت التحقيقات والكتابات التي تذهب الى فرنسا ودول العالم كلها تؤكد على ذكاء المعارضة الشعبية في مقابل التخلف والغباء عند السلطات الفرنسية وأتباعها. ودائماً كان الاستقلاليون يبهرون العالم بمنطقهم وأدائهم بينما كانت السلطات الفرنسية الحاكمة موضع انتقاد صارم في بلدانها.

خلال الحرب العالمية الثانية كانت البرقيات والاذاعات الغربية تورد دائماً جنباً الى جنب سلامة المنطق الذي كان يتعلم به الوطنيون من أبناء البلاد في مقابل الاسفاف الذي يمارسه الانتدابيون الفرنسيون وأتباعهم.

أما الصحف الفرنسية والغربية فكانت عن اضطرار أو عن قناعة تعرض دائماً وجهتي النظر فيظهر الشذوذ والتخلف في أداء الفرنسيين والذكاء والمنطق في الجانب الشعبي والوطني.

واذا كان لبنان على صغر حجمه استطاع أن يكون له دور في محيطه العربي وعلاقاته الخارجية فذلك لنجاحه في الحفاظ على صفاته كوطن نهضوي شارك في نهضة الأمة العربية مذ كان العصر العثماني. ولم تكن نهضوية اجتماعية ثقافية فقط بل كانت نضالية كفاحية أيضاً حرصت على أن يكون لبنان لا جزءاً من الكيان العربي الكبير والجامع فقط، بل أن يكون مبدعا في الصراع أو التحرك والدور في تاريخ الامة العربية.

بل ان النهضة العربية بشتى تجلياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية كانت واستمرت وباتت ضرورة لا تحتمل التأجيل. فإذا كان لبنان قد اصبح من المتحمسين لهذه الضرورة فإن الدول المفروض أن تكون قد سبقته على هذا الطريق مطلوب منها أكثر مما هو مطلوب من لبنان. والدلائل كثيرة على ازدياد الشعور العربي بوجوب وقفة عربية واعية وعمومية بنمو الخطر البنيوي على البيئة الثقافية من الصهيونية. فهل هم حقاً كثيرون هم العرب الرسميون وغير الرسميين الذين يشعرون بوجوب وقفة عربية شعبية ورسمية امام الطموحات الاسرائيلية.

ان البقية الباقية من فلسطين الجنوبية مهددة بالتهويد، والتساؤل في اوساط عربية كثيرة هل ستكتفي الصهيونية بالقضم الذي قامت به من ارض فلسطين ام انها في هذه الايام معلقة على قضم جديد من الارض الفلسطينية لم تتنفس في وجهه حتى الآن البلدان العربية وأولها مصر التي تجعلها الجغرافيا أول مكتشف للتوسع الرأسمالي في فلسطين الجنوبية.

لقد وصلت الحال العربية شرق المتوسط حد الاستواء فإما أن تمتد يد الفلسطيني شرق المتوسط الى أخيه في عرين مصر ليسير الاثنان في معركة رابحة حتماً هي تعريب المتوسط الشرقي والجنوبي وليذهبا معاً في معركة منتصرة على الصهيونية في اسرائيل فيكون المتوسط هكذا بحر العرب.

فأما استراتيجية عربية تقول المتوسط لنا كما تجرأ موسوليني أن يقول: ماري نوستروم أي هذا بحرنا فتكون صيحتنا المعاكسة: المتوسط بحرنا أو نكون تأخرنا وضاعت من أمامنا فرصة لنعود ونجرب أنفسنا. لا يجوز أن تبقى اسرائيل مانعاً لإعلان عروبة المتوسط.

ومن يتتبع كتابات الصحف الاسرائيلية عن لبنان يدهش للحجم الذي يأخذه هذا الوطن العربي الصغير لبنان من اهتمام الصحف والدوائر الاهلية والرسمية. التفسير الاول عند متتبعي هذا الموضوع هو انزعاج اسرائيل من نجاح لبنان. فهي تكاد لا تتحمل كثافة حضور كلمة مقاومة في كل ما يكتب ويقال في لبنان وعن لبنان بينما لا يجوز ذلك بالنسبة اليها وكحديث عن غيره من الدول العربية وغير العربية حيث لا اعتماد نسبيا لهذه الكلمة، عند القريب والبعيد فبينما كانت الآذان في كل العالم قد تعودت أن لا تذكر كلمة لبنان إلا الى جانبها كلمات مهدئة ومطمئنة بل شارحة للصدور المتعصبة كالسياحة والاصطياف والمصارف والسلام الدائم. إذ بها تفاجأ أن لا حديث في لبنان وعن لبنان إلا عن لبنان ومعه كلمات تعبئة كالنضال والجهاد والتصدي لاسرائيل ووقفها عند حدها.

ان لبنان المسيحي ولبنان المسلم سوقا بظروف واقعية خيارات مصيرية جعلت وطن الأرز العربي المظفر الذي حسم موضوع هويته ودوره كي لا يكون هو الخاصرة الرخوة في الجسم العربي بل ان يكون الوطن الطليعي المعتز بلبنانيته وعروبته في آن معاً لا البلد المساير لاسرائيل على حساب لبنانيته وعروبته.

وشأنه دائما في خياراته الكبرى اختار لبنان أن يؤكد ثنائيته العروبية والاستقلال الوطني معاً. سرعان ما تذكر لبنان تحت ضغط الاحداث ولو بعد نسيان علاقته التوأمية الخاصة مع فلسطين الماضي فزعيمها الحاج امين الحسيني ما عاش نزيلاً في لبنان كما عاش في فلسطين. وفضل الجهاد الفلسطيني فوزي القاوقجي لبناني عربي في جذوره اللبنانية الطرابلسية وعراقته في الجهاد الفلسطيني بل ان القاوقجي كان في نظر عدد كبير من اللبنانيين من أهل مدينته طرابلس الرجل المأمول لاجراء انقلاب سياسي ووطني في لبنان يطيح بالانتداب الفرنسي الجاثم على صدر لبنان وسوريا.

فسوريا المناضلة ضد الاحتلال الفرنسي كانت هي المحطة التي يتوجه إليها المناضلون العرب ويوسف العظمة وزير الدفاع في الحكومة السورية هو النجم الاكثر تمثيلا للجهاد العربي، وسوريا لا اي بلد عربي آخر هي محط الأنظار. بل ان الرأي العام الدولي والعربي كان يبدو وكأنه اعتمد ثنائية مبسطة في النظر الى قطرين شقيقين وجارين هما لبنان وسوريا، فلبنان هو الاصطياف والازدهار الاقتصادي وسوريا هي النضال الوطني ضد الأجنبي. وقد اتفق الرأي العام العربي والدولي على هذا التصنيف البسيط والمريح للأذهان والنفوس. قليلون هم من لم يعتمدوا في البدء هذا التقسيم ولكن مع مرور الزمن بدأت تنكشف صورة جديدة.

إذ تبين مع الايام ان نضالا ضد الانتداب قد ظهر في لبنان كما ان في سوريا ظهر أن هناك أيضاً متعاملين مع الانتداب كما أن هناك من هم نماذج عن النضال ضد الاستعمار يستحقون ان يؤخذوا نماذج نضالية تستحق أن تعتبر قدوة للشعوب الاخرى حيثما كانت. وهكذا ظهرت سوريا بين عشية وضحاها كما لو انها بالمقارنة مع غيرها من الدول العربية مدرسة مفتوحة للتيارات السياسية، فهناك الساسة المتطرفون يسارياً كما هناك المتطرفون يميناً وهناك الجهوديون والملكيون والعسكريون المتسيسون والساسة المتعسكرون وسرعان ما انكشف مع الايام ان سوريا تحولت بإرادة منها وغير ارادة الى مدرسة للتطرف اليساري وأخرى للتطرف اليميني، وللديمقراطية والحكم الفردي، للاتجاه الديني والآخر العلماني للمركزية والجبهوية.

مع ذلك يبقى أكثرية المتابعين للحياة السياسية السورية رغم ما يعصف بها الان، متفائلين بأن القطر العربي كان ولا يزال عنده الكثير في مستقبل الأيام وما يحدث الآن من مواجهة ضد النظام من أجل تأصيل عروبة سوريا ودورها في محيطها العربي التي هي منه وفيه.

 2/5/2013 – الرياض

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة