المعارضة تعيد كتابة التاريخ السوري ـ رجا عبد الرحيم *
في كتاب صدر أخيراً وتلتزم به عشرات مدارس اللاجئين السوريين في تركيا، عُدِّل شطر من جغرافيا الشرق الأوسط، فقبل 70 عاماً ضمت تركيا إقليم هاتاي (لواء الإسكندرون) في شمال سورية إليها، لكن خريطة الكتب المدرسية السورية طوال حُكم آل الأسد لم تقر بعملية الضم، وأظهرت هاتاي ضمن الحدود السورية. كتاب التاريخ السوري الجديد يدرج هاتاي في تركيا، والتعديل هذا هو واحد من سلسلة تعديلات سياسية انتهجتها مجموعة المعارضة السورية التي نشرت الكتب الدراسية المعدلة. وفي سورية بشار الأسد، قوام المجتمع هو عقيدة الولاء لـ «البعث»، ونظام الحزب الواحد مهيمن على أوجه الحياة كلها، ومنها الكتب المدرسية الابتدائية، التي تُوسلت وسائلَ دعائيةً سياسية. والكتب الجديدة هي محاولة المنتفضين على الأسد لسرد رواية تاريخية مختلفة، وهي خطوة على طريق إعادة كتابة تاريخ الأمة السورية بعد ما يرون أنه 4 عقود من «الأكاذيب وأنصاف الحقائق».
وفي مطلع الانتفاضة السورية، مُزقت صور الأسد الابن ووالده من الكتب الدراسية. و «الأغلب على الظن أن يُكتب التاريخ أكثر من مرة أثناء هذه المأساة. والى اليوم، يكتفي الثوار بحذف أشياء وصور، ولكن مع الوقت سيتولى من ستكون له الغلبة كتابة التاريخ»، يقول عمر العظم، وهو معارض سوري وأستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة شوني بأوهايو الأميركية. وخلفاء الأسد، سواء كانوا توافقيين أو علمانيين أو طائفيين متطرفين عقائدياً، سيكتبون التاريخ الجديد، ولن يقتصر تأريخهم على تعديلات «تجميلية» ولغوية، على شاكلة تلك المنشورة في الكتب الجديدة بتركيا، بل يُتوقع أن يتناول التاريخ الجديد انتفاضة الإخوان المسلمين في الثمانينات التي سحقها النظام في مجزرة حماة، وساهمت في رسم معالم المجتمع السوري المعاصر، على رغم شح الكلام عنها.
وفي وقت أول، بادرت لجنة الشرق الإسلامي، وهي تضم مجموعة مهاجرين سوريين أخذوا على عاتقهم طباعة الكتب المدرسية وتوزيعها، إلى توفير كتب التاريخ «النظامية» نفسها للاجئين في المخيمات والبلدات التركية، ولكنْ إثر توزيع الكتب علت أصوات احتجاج اللاجئين الذين اضطروا إلى مغادرة منازلهم على وقع القصف «الحكومي»، ورفضوا تدريس أبناءهم بروباغندا النظام، فشُكلت 4 لجان للبحث في المناهج الدراسية، وبدأت عملية تعديل عشرات الكتب، فنزعت صور الأسد ووالده من الكتب أو سُترت باللون الأسود، واستُبدل العلم السوري بعلم المعارضة، وألغيت الإشارة إلى الأسد على أنه القائد الخالد من الكتب، ولم يعد الحكم العثماني يوصف بالاحتلال العثماني، أو انقلاب الأسد الأب في 1970 بـ «الحركة التصحيحية»، وصار اسم حرب 1973 التي أخفقت سورية فيها باستعادة هضبة الجولان، «حرب تشرين» عوض «حرب تشرين التحريرية» (يسوِّغ مدير اللجنة التربوي التعديلَ الأخير بالقول إن سورية لم تحرر شيئاً في تلك الحرب)، وأُلغي كتاب قومي يتناول فلسفة حزب «البعث» الأسدي من منهج التعليم الثانوي.
وإلى اليوم، تقتصر الإشارة في الكتب الجديدة إلى الثورة السورية المتواصلة الفصول على صُوَرْ قتلى المتظاهرين، ومنهم حمزة الخطيب، ابن الثلاثة عشر عاماً، المتحدر من درعا والذي قضى إثر تعذيبه، وارتقى في أشهر الانتفاضة الأولى إلى رمز لحركة المعارضة. واللجنة «الفاحصة» ليست الجهة الوحيدة التي تعيد النظر في المناهج المدرسية السورية، ففي مطلع العام أنشأ معلمون في المهجر «لجنة التربية السورية» لتقويم النظام التربوي السوري وتعديله.
تقع مدرسة اللاجئين السوريين الابتدائية اليتيمة في أنطاكيا على تخوم المدينة، في مبنى من طابقين زهري وأصفر اللون في ختام طريق غير معبد يسلكه الرعاة مع قطعانهم. «منذ نعومة أظافرنا زُرعت بذور حب الأسد في صدورنا رغماً عنا. ولا تزال أغاني تمجيد النظام محفورة في ذاكرتي»، تقول مديرة المدرسة دانيا بيطار. ويطّلع تلامذة الصف الخامس على أشكال الحكم في العالم، «قلتُ لهم إن النظام السوري ديكتاتوري، وشرحت لهم ما هي الديكتاتورية»، تقول لطيفة طرابلسية، أستاذة اجتماعيات من اللاذقية. أما التلاميذ فيساهمون في تعريف الديكتاتورية برواية كيفية مقتل أقاربهم.
أقل من نصف التلاميذ في صف طرابلسية يرتدون الزي الرسمي المدرسي، فالأسر الهاربة تركت وراءها كل شيء، وحسبت أن غيابها لن يطول أكثر من أسابيع قليلة. «نحب الكتب الجديدة، فهي لا تحتوي صور بشار، وهذا الأمر يفرحني، فهو الذي حملنا على الرحيل ويحول دون عودتنا إلى سورية»، تقول مريم نجار وهي ترتدي سترة زهرية اللون ووثيرة في قاعة الصف المرتفعة الحرارة وغير المكيفة. وحين صمتت مريم، تابعت زميلتها جنى كمال الكلام، معللة دواعي «حب» الكتاب الجديد بالقول: «أجبرنا الرئيس على النزوح وقتلنا»، وتضيف حسناء زهار، زميلة ثالثة لهما: «دمر بيوتنا على رؤوسنا»، وتروي وفاء محمد من دمشق، وهي أستاذة لغة إنكليزية، أن التلاميذ استقبلوا الكتب الجديدة بالحماسة والفرح، فهم يرون أن إلغاء صور الرئيس هو صنو سقوط النظام.
ويبدو، أن اللجنة «تغني على ليلاها» وتعيد كتابة التاريخ على ما تشتهي، ففي الصفحة 163 من كتاب علم الاجتماع للصف الخامس، تربعت محل صورة حافظ الأسد وهو يرفع العلم السوري في ذكرى حرب تشرين، صورة أيقونية من الحرب العالمية الثانية تظهر جندياً أميركياً يرفع علم بلاده في معركة إيو جيما. لكن الصورة – الأيقونة هذه معدّلةٌ ايضاً، فألوان العلم في يد الجندي الأميركي هي الأخضر والأبيض والأسود، ألوان علم المعارضة السورية.
* مراسل، عن «لوس أنجليس تايمز» الأميركية، 16/4/2013، إعداد منال نحاس
الحياة ـ ٨ مايو ٢٠١٣