من أجل إنقاذ بقية سورية من الدمار ـ رغيد الصلح *

مقالات 0 admin

عندما يقارن المرء بين الاجتماع الذي ضم جون كيري وسيرغي لافروف، وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، خلال شهر شباط (فبراير) الماضي، والاجتماع الذي ضمهما أول من أمس الثلثاء، يجد مجالاً للاستنتاج بأن المساعي الدولية الرامية إلى الوصول إلى حل تفاوضي للصراع في سورية حققت بعض التقدم، فلقد سبق الاجتماع السابق جو من التشاؤم والتشكيك سلفاً بنتائجه. وساهم الانتقاد العنيف الذي وجهه لافروف آنذاك -سواء أخطأ أو أصاب- إلى فريق من المعارضين السوريين في إشاعة مثل هذا الجو، وذلك عندما حمّل هؤلاء «المتطرفين مسؤولية إغلاق الطريق إلى حل الأزمة السورية سلماً». كذلك ساهمت الأنباء التي تحدثت عن احتمال إرسال واشنطن أسلحة متقدمة إلى المعارضين في خلق الانطباعات المتشائمة حول اللقاء.

خلافاً لتلك الانطباعات، فإن الاجتماع الأخير بين المسؤولين الأميركي والروسي أفسح المجال أمام بعض التفاؤل بصدد إمكان الوصول إلى الحل التفاوضي، فقد حرص الجانبان على إحاطة الاجتماع بأجواء تشجع على التوصل إلى مثل هذه الاستنتاجات. وفي هذا السياق، بدا وكأن موسكو وواشنطن قد تجاوزتا «أزمة ماغنيتسكي» التي منع بسببها 18 من الرسميين الروس من زيارة الولايات المتحدة. الأهم من ذلك هو النتائج التي توصل اليها كيري ولافروف والتي تضمنت عقد مؤتمر دولي قريب لإيجاد حل للاقتتال في سورية، مع إحياء النقاط الست التي تضمنتها مقاربة كوفي أنان لهذه الأزمة وتشجيع مساعي السلام التفاوضي بين السوريين.

لقد صور البعض، خاصة في الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، أن هذه النتائج هي حصيلة المزيد من التراجعات والتنازلات التي تقدمها إدارة أوباما إلى أعداء الولايات المتحدة، وأنها تعبير ملموس عن ضعف هذه الإدارة وتفريطها بالمصالح الأميركية الجوهرية. وأعطى السناتور الأميركي جون ماكين، الذي كان مرشحاً سابقاً لرئاسة الجمهورية عن الحزب الجمهوري، دليلاً على ذلك عندما أشار إلى امتناع إدارة اوباما عن فرض عقوبات على الحكومة السورية على الرغم من إقرار المسؤولين الأميركيين أن دمشق استخدمت سلاحاً كيماوياً في الحرب. وأضاف بعض الجهات الناقدة لإدارة أوباما، أن الموقف الأخير الذي اتخذه كيري يتعارض مع الوعود التي أعطيت للمعارضة السورية حول تقديم الدعم التسليحي لها. وبدا للبعض أن إدارة اوباما برهنت في المسألة السورية أنها باتت تتطرف في استخدام القوة الناعمة في السياسة الدولية مثلما تطرفت إدارة بوش من قبلها في استخدام القوة العسكرية، فبينما اعتبرت الأخيرة الهراوة العسكرية هي الطريق الوحيد لمواجهة التحديات الدولية، باتت الأولى ترى أن القوة الناعمة هي الأسلوب الوحيد في مواجهة هذه التحديات، وأن اوباما هو الوجه الآخر لبوش، أما الطريق الصحيح الذي ينبغي على القوة العظمى الوحيدة أن تسلكه، فهو -في رأي الناقدين- استخدام الأسلوبين معاً في الدفاع عن المصالح الأميركية.

مهما كانت التفسيرات والاقتراحات التي قدمها ناقدو مواقف إدارة اوباما تجاه المسألة السورية، فإن هذه المواقف ليست أمراً مفاجئاً. وإذا كان هناك ثمة خطأ في فهم هذه المواقف، فهو لا يرجع إلى غموض الموقف الأميركي من تلك المسألة وإنما إلى أن البعض أراد أن يفهمها فهماً رغائبياً مخالفاً لمضمونها. لئن كان موقف اوباما «متخاذلاً» تجاه السوريين، كما ارتآه البعض، فإن هذا الموقف لم يتغير منذ بداية انفجار الأزمة السورية وحتى هذا التاريخ، مع الاختلاف أحياناً وفق التطورات، في التشديد على جوانب معينة في الموقف العام. وفي الحالات كافة، بدت واشنطن راغبة في إيجاد حل لهذه الأزمة، بالتفاهم مع شركاء دوليين ومع موسكو بصورة خاصة. ومن أراد سبر أعماق الموقف الأميركي، كان من السهل عليه أن يعتبر هذا التوجه الأميركي بمثابة «معطى» وليس مجرد اجتهاد أو رأي يعتنقه مسؤول أميركي أو مسؤولون أميركيون من دون غيرهم.

هذا المعطى هو حصيلة رغبة مشتركة عند الطرفين الأميركي والروسي في التعاون متى توافرت الأجواء والظروف والحوافز المناسبة له، فالإدارة الأميركية ترغب في التعاون بين الطرفين في قضايا متعددة، ربما كان اهمها ما أشارت إليه صحيفة «بوستون غلوب» الأميركية، إذ قالت إن واشنطن ترغب في تأسيس محور أميركي-روسي في إطار عملها من أجل احتواء الصين. ووفق هذه الرواية، فإن المسؤولين الأميركيين يأملون في تكرار ما حصل عندما بادر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى اقامة محور أميركي-صيني لاحتواء الاتحاد السوفياتي، فكان أن ساهم هذا المحور مساهمة كبيرة في إسقاطه وفي نهاية المعسكر الاشتراكي. فضلاً عن ذلك، ترغب واشنطن في احتواء كوريا الشمالية ووضع حد لتهديداتها وتحدياتها في شرق آسيا، وتحقيقاً لهذه الغاية، فإنها تحتاج إلى دعم موسكو ومساعيها الحميدة مع القيادة الكورية. كذلك تحتاج واشنطن إلى التعاون مع موسكو من أجل احتواء إيران ومن أجل تأمين ممرات آمنة لانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان.

وكما تحتاج واشنطن دعم موسكو في العديد من القضايا، فإن موسكو هي الأخرى تحتاج دعم واشنطن، مثل التعاون في مقاومة الجماعات الإرهابية التي تعمل في الاتحاد الروسي. ولقد برهنت موسكو على جدية هذه الرغبة عندما حذرت الإدارة الأميركية من الجماعات الشيشانية وقدمت إليها معلومات مسبقة عن احتمال قيام عملية بوسطن الإرهابية. وبديهي أنه مقابل هذه المواقف، تتوقع موسكو أن تبادلها واشنطن التحية بمثلها، وأن تمتنع عن تشجيع الجماعات الشيشانية الإرهابية كما كانت تفعل في بعض فترات الصراع مع روسيا. كذلك، فإن موسكو ترغب في التنسيق مع الإدارة الأميركية في تسويق النفط والغاز إلى الأسواق الأوروبية بينما تتحول الولايات المتحدة إلى مصدر ومنافس رئيسي على هذه الأسواق. وتحتاج موسكو إلى التعاون مع واشنطن أيضاً في ضمان سلامة خطوط التجارة البحرية التي تفيد منها التجارة الخارجية الروسية، وفي تشجيع الاستثمارات الأجنبية في الأسواق الروسية.

كل ذلك يشكل حافزاً للتفاهم بين موسكو وواشنطن حول بعض قضايا العلاقات الدولية، ومن أهمها اليوم المسالة السورية. هذا لا يحول الاثنين إلى حلفاء وإنما يلغي أي مبرر للاعتقاد بأن بين الاثنين خصومة أبدية وعلاقات صفرية، وأن واشنطن مستعدة للذهاب إلى آخر الطريق في دعم المعارضة السورية إضعافاً للروس، وأن الروس مستعدون لاستخدام كل الوسائط في دعم العرب في فلسطين وسورية إضعافاً للأميركيين، كما بدا للبعض إبان الحرب الباردة. والحقيقة أنه حتى في أيام الحرب الباردة، لم تكن صورة العلاقات بين الطرفين على هذه الشاكلة، وأنه ليس هناك من سبب حالياً لكي تتجه العلاقات بين الطرفين في هذا المنحى.

قد يكون مبرراً للكثيرين من العرب، كما هو الأمر مع السوريين والفلسطينيين، التخوف من أن يتم التفارب والتنسيق بين روسيا والولايات المتحدة على حسابهم. لقد دفعوا في الماضي ثمن التبدل في العلاقات الدولية، ولكن هناك كثيرين من العرب يعتقدون بحق أن العرب أنفسهم تحملوا جزءاً لا يستهان به من مسؤولية النكسات أو التراجعات التي لحقت بهم بسبب التغير في المناخات الدولية، فالمنطقة العربية هي من أكثر مناطق العالم انكشافاً أمام التدخل والضغوط الخارجية، ولكن مع ذلك نجد أن أصحاب الرأي والقرار فيها لا يهتمون بالسياسة الدولية اهتماماً يتساوى مع هذا الانكشاف. ولعل المسألة السورية تكون مناسبة لإغلاق هذه الثغرة بحيث يكون للعرب وللسوريين الدور الرئيسي في تقرير مستقبلهم ومساندة المواقف الدولية المؤيدة لحقوقهم ومصالحهم. وفي الحالات كافة، يصبح الاهتمام ببلورة أسس للحل التفاوضي بين الفرقاء السوريين أمراً ضرورياً، والعمل على إنهاء الاقتتال وتخفيف ويلاته وأضراره أولوية ملحّة سورية وعربية.

* كاتب لبناني

الحياة ـ ٩ مايو ٢٠١٣

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة