سوريا وحرب الثلاثين عاماً ـ محمد السماك

مقالات 0 admin

في عام 1618 وقع حادث طائفي في مدينة براغ.

فقد قامت مجموعة من الشبان المسيحيين البروتستانت بإلقاء ثلاثة من المسيحيين الكاثوليك في النهر. ورغم أن هؤلاء الثلاثة نجوا من الغرق، إلا أن الامبراطور فرديناند الثاني الذي كان يتمتع بسلطة مطلقة – وينحدر من عائلة هابسبورغ النمساوية-، وكان هو نفسه كاثوليكياً، اعتبر الاعتداء موجهاً ضده، وضد سلطته وضد عقيدته الدينية. فأمر قوات الجيش القيام بحملة تأديب عسكرية.

أشعلت تلك الحملة فتيل حرب الثلاثين عاماً التي اجتاحت أوروبا. فسقط ضحية تلك الحرب ثلث سكان أوروبا. وفي بعض المناطق من ألمانيا والنمسا بلغت نسبة الضحايا حوالى الثمانين بالمائة من السكان. والى جانب القتل الجماعي، عرفت الحرب عمليات ذبح على الهوية الدينية، وعمليات اغتصاب واسعة. وعمليات سلب ونهب ارتكبت كل تلك الجرائم أحياناً باسم الدفاع عن العقيدة.. وغالباً انتقاماً من أصحاب العقيدة الأخرى.

لم تضع حرب الثلاثين عاماً أوزارها إلا بمؤتمر سلام عقد في وستفاليا في عام 1648 وعرف باسمها. وهو المؤتمر الذي انبثقت منه الدولة الوطنية التي أعادت صياغة أوروبا كما نعرفها اليوم.

هل يمكن إسقاط هذه التجربة الدموية الأوروبية على الواقع العربي اليوم؟

إذا استبدلنا درعا ببراغ،

وإذا استبدلنا تعذيب أطفال درعا الذين كتبوا على أحد جدران مدرستهم “الشعب يريد إسقاط النظام” بالكاثوليك الثلاثة الذين ألقي بهم في النهر،

وإذا استبدلنا الرئيس بشار الأسد بالامبراطور فرديناند،

وإذا استبدلنا حرص الأسد على سلطته المطلقة بحرص فرديناند،

وإذا استبدلنا الحملة العسكرية التأديبية التي شنها محافظ درعا على أهل المدينة وعشائرها بالحملة التي شنتها قوات فرديناند ضد البروتستانت في براغ،

وإذا استبدلنا انفجار الحرب في سوريا بالحرب التي انفجرت في أوروبا،

عند ذلك يمكن أن نفهم ما قد يعجز المنطق السياسي التقليدي عن فهمه بالنسبة لمجريات الصراع الدموي المتفاقم في سوريا.

فالضحايا اليوم يزيد عددهم على السبعين ألفاً. وبلغ عدد ضحايا شهر آذار مارس الماضي وحده ستة آلاف ضحية.. والمجزرة مستمرة. وقد عرفت الحرب عمليات ذبح على الهوية المذهبية. وعمليات اغتصاب واسعة. كما عرفت عمليات سلب ونهب باسم هذا المذهب أو ذاك، أو دفاعاً عن هذه العقيدة أو تلك.. تماماً كما حدث في أوروبا قبل حوالى أربعة قرون.

وفيما تتساقط الدعوات الى الحوار مثل أوراق الخريف المبكّر، وفيما تتواصل الحرب بكل أبعادها التدميرية، لا يبدو حتى الآن أي توجه نحو “وستفاليا شرق أوسطية” تضع نهاية للحرب وتنتج الدولة المدنية الحديثة وتعيد صياغة المنطقة على هذه الأسس الجديدة.

في عام 1618 لم يكن هناك لا منظمة للأمم المتحدة، ولا منظمة للاتحاد الأوروبي، كما لم يكن هناك حلف شمال الأطلسي. ولو كانت هذه المؤسسات الدولية موجودة لربما تغيرت الصورة. فالحرب التي استمرت ثلاثين عاماً ربما كانت انتهت بثلاثين يوماً.. أو بثلاثين أسبوعاً على الأكثر. وهذا ما حدث فعلاً في البلقان بعد تمزق الاتحاد اليوغسلافي السابق في مطلع التسعينات من القرن الماضي. فحرب الإبادة التي شنتها القوات الصربية ضد مسلمي البوسنة توقفت بقرار من الأمم المتحدة، وبإرادة أوروبية، وبقوة حلف الأطلسي.

أما سوريا، فهي دولة غير أوروبية، وما يجري فيها من مآسي دامية لا يعرّض المصالح الحيوية الأوروبية أو الأميركية – لأي خطر، ولذلك فإنه لا يشكل هماً في بروكسل ولا يثير قلقاً في واشنطن!!

ولكن توجد منظمة جامعة الدول العربية. إلا أنه بعد أن أخرجت سوريا من عضويتها، لم يعد بإمكانها أن تجعل من قطر وستفاليا عربية. وذلك رغم أن الدول الأعضاء في الجامعة لا تشبه الإمارات الأوروبية التي كانت قائمة قبل عام 1618. في ذلك الوقت كان كل أمير أوروبي وكل حاكم – يقرر تحديد الدين المتبع في إمارته كاثوليكياً أو لوثرياً أو كالفينياً. وهو الوضع الذي بدأ يطل برأسه من جديد في بعض المناطق المنشقة عن السلطة الشمولية في سوريا.

لم تكن “براغ” التي شهدت انفجار حرب الثلاثين عاماً منفصلة عن محيطها. فالحركات الدينية المختلفة كانت منتشرة في كل أوروبا. ولم تكن تلك الحركات على توافق. بل إنها كانت تفتقد الى الحد الأدنى من تقبل الاختلافات الاجتهادية في مفاهيمها للعقيدة المسيحية الواحدة. ولذلك كان الاعتداء على الكاثوليك الثلاثة بمثابة اعتداء على كل كاثوليك أوروبا. وكان الانتقام الكاثوليكي انتقاماً من كل البروتستانت. وهو الحال الكارثي ذاته الذي يخشى أن تستدرج سوريا اليه اليوم، بحيث قد تتحول ثروتها الإنسانية في التعددية الدينية والمذهبية والعنصرية، من نعمة الى نقمة.

ليس صحيحاً أن التعدد لا يتماسك، ولكنه يحتاج الى إمساك، أي الى قبضة تمسك به. وأنه كلما كانت القبضة حديدية كان الإمساك أكثر ضماناً واستمراراً. صحيح أن التعدد في الاتحاد السوفياتي السابق، كما في الاتحاد اليوغسلافي السابق، سقط بسقوط القبضة الحديدية، ولكن الصحيح أيضاً أن التعدد في دول كبرى مزدهرة ومستقرة مثل الهند وكندا والولايات المتحدة تحفظه وتصونه الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان والالتزام بمبادئ وأسس الديموقراطية.

وليست سوريا استثناء. فالقبضة الحديدية ليست هي التي تحفظ التعدد فيها. ولقد ثبت أنها كانت وبالاً عليها إذ لا وحدة وطنية بالإكراه. فالوحدة الوطنية تكون بالاختيار أو لا تكون. وهي عملية يومية تمارسها الثقافة العامة ولا تمليها السلطة الأمنية. يحفظ التعدد في سوريا خروجها من الشمولية الحزبية المعسكرة ودخولها الى العصر الحديث من بوابة الحريات والديموقراطية.

من هنا التساؤل هل لا يزال من الحكمة أن تنتظر سوريا وستفاليا دولية أو عربية أو إسلامية ؟. وهل لا يزال بالإمكان انتاج وستفاليا سورية وطنية تضع حداً لعمليات استباحة الدم والعرض وتدمير الهيكل على كل من فيه ؟.. وكيف يمكن إعادة بناء دولة مدنية حديثة تفك ارتباطها بالقوى الخارجية التي تستثمر معاناة شعبها، وترسي قواعد احترام كل الأديان والمذاهب وجميع العناصر المكونة لها ؟. فطوال حرب الثلاثين عاماً كانت أوروبا تطرح على نفسها هذه التساؤلات الى أن اهتدت الى جواب واقعي حوّلها من إمارات متقاتلة الى قوة عالمية كبرى. فهل تتعلم سوريا من درس التاريخ؟!

27/5/2013 – المستقبل

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة