موت لبنان مكلّل بصمت أبنائه ـ حازم الأمين
الحال في لبنان ان رئيس الجمهورية ميشال سليمان يقول انه «ضد ان يُرسل «حزب الله» مقاتليه الى سورية»! وهذه بعض من مفارقات واقع يُتيح فيه بلد لحزب اقتناء السلاح، ويُثبت ذلك في البيانات الوزارية، فتستحيل مواقف رئيسه تمنيات، وتتحول البيانات الوزارية حبراً على ورق، ويصير السلاح صاحب القرار.
فمَن اليوم في لبنان يحق له ان يقول للأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله ان قرار المشاركة في القتال في سورية هو خروج عن المهمات التي أناطتها البيانات الوزارية بسلاح المقاومة؟ انه سلاح الحزب ولا أحد غير الحزب، والمقاتلون المُرسلون الى القصير هم مقاتلو الحزب، هو درّبهم وهو سلّحهم، فيما الدولة اللبنانية غير غافلة عن ذلك.
القول اليوم إن لبنان لا يمكن ان يُحكم من جانب سلطة متشكلة عبر انتخابات، يبدو نافلاً، والرئيس السوري بشار الأسد اذ قال في مقابلته مع تلفزيون «المنار» ان لبنان لعب دوراً سلبياً في الأزمة السورية، عنى بما قاله «تمنيات» الرئيس اللبناني. ذاك ان المهمة كانت تقضي بأن يُرسل المقاتلون الى هناك من دون «تمنيات». واليوم يمكننا ان نتحقق على نحو ملموس من الوظيفة المنوطة بدولتنا الضعيفة، فنحن الاستثناء الوحيد بين كل دول الجوار السوري. وحده لبنان أعلن رسمياً ارسال مقاتلين لبنانيين الى القتال في سورية، ووحدها حدودنا من كان ينتظر منها الرئيس السوري مزيداً من الدعم. من العراق يُرسل نوري المالكي مقاتلين، لكنه يفعل ذلك في غفلة من القوانين. ومن تركيا تسهّل الحكومة عبور السوريين، لكنها لم ترسل جندياً تركياً واحداً، والحدود مع الأردن محكومة بمعادلة تحفّظ الحكومة على الحرب في سورية.
يمكن اللبنانيين أن يشعروا اليوم بأنهم يعيشون في العراء، لا بل إن أي شعور بغير ذلك يبدو مصطنعاً، والنقاشات السائدة حول قانون الانتخابات النيابية، وتأجيل إجرائها لأسباب تقنية وغير تقنية، هي أشبه بصراخ يستعيضون به عن وحشة يُتْمٍ كانوا يُخبئونه بضجيج ما يعتقدون انه سياسة.
اليوم قال لهم «حزب الله» «سأذهب الى القصير»، وقال لهم بشار الأسد ان «تمنياتكم تلعب دوراً سلبياً في سورية». اذاً عليكم ان تتعايشوا مع المهمة بصمت. مَنْ لا يؤمن بالمهمة عليه ان يكتفي بالصمت. عليه ألا يراقب. لم تعد للبيان الوزاري قيمة، فمن قبل به على رغم ما فيه من مفارقة، عليه ان يقبل بتجاوزه، هذا الأمر هو أصلاً جزء من آلية عمله.
يسود هذا الشعور في لبنان. كل اللبنانيين يغصون بسؤال عن ارتداد المشاركة في القتال في سورية عليهم. الخبرة لا تسعفهم في التخيل، ذاك أنها المرة الأولى التي يتوجه مقاتلون من بينهم الى دولة مجاورة. ماذا سيعني فشل المهمة؟ وماذا سيعني نجاحها؟ لا شك في ان لبنان قبلها هو غيره بعدها، فـ «حزب الله» ذاهب الى القصير لأسباب لبنانية أيضاً، وانتصاره هناك سيُصرف هنا، وكذلك هزيمته.
لكن «حزب الله» راكم «انتصارات» لم يعد لبنان يتسع لها، وها هي اليوم تفيض على القصير وعلى سورية، وهو اذ اعتقد بأنها ذخيرة للمستقبل، فها هو اليوم يشعر بوطأتها. القوة الفائضة في لبنان هي غير ذلك في سورية.
هذه بعض صور تخبطنا جراء المهمة الجديدة التي أُنيطت بسلاح «حزب الله»، ذاك ان ارتدادها علينا عبر مزيد من الوهن في صورة دولتنا خلّف شعوراً بالموت النهائي للدولة وللحكومة. فقد كنا نعيش بالمواربة، وها نحن اليوم أمام الحقيقة من دون مواربة. لا دولة ولا سلطة. مجرد توافق على العيش بشيء من الهدوء والصمت والإشاحة.
ثم إن خيالنا في ظل المهمة الجديدة هذه لم يعد يسعفنا في تخيل ما سنكون عليه بعدها، فهي أُوكِلت لنا من دون ان نكون معنيين بحصد نتائجها.
قد يتخيل المرء «حزب الله» قبل حرب تموز و «حزب الله» بعد حرب تموز، وأن يُجري بعد ذلك مقارنة قد يختلف في تقويمها مع غيره. ولكن، ماذا عن «حزب الله» قبل القصير و «حزب الله» بعد القصير؟ بالتالي ماذا عن لبنان قبل القصير ولبنان بعدها؟ «حزب الله» لا يمكن ان يكون أقوى من نفسه، أو ان يُسابق نفسه، اذ لا نفوذ لغيره اليوم في لبنان، وأن يتفوق على السلطة فيه، فهو بذلك يتفوق على نفسه.
يميل المرء الى الاعتقاد بأن الحزب عاجز عن التخطيط لما بعد المهمة، وأنه لا يعرف على مَنْ ستقع الخسارة سواء انتصر أم هُزم. لكن الثابت حتى الآن ان لبنان يترنح تحت وطأة هذه المهمة، وأن مزيداً من التلاشي يصيبه هو ودولته ومجتمعاته، وأن رئيسه يُناشد الحزب عدم الإمعان في الانزلاق. وثمة استغاثات خرساء يُطلقها كثيرون من دون أن ينطقوها. وما يزيد وحشة المستغيثين، رصدهم الذهول الذي خلفته المهمة في نفوس من يشبهونهم. فمقتدى الصدر يناشد «حزب الله» الكف عن إرسال المقاتلين الى سورية، وأن ذلك يولد مزيداً من الخوف. والرجل كان ضيف الحزب قبل أسابيع قليلة، وهو لا يقول ذلك لأنه يتمنى لبشار الأسد ان يسقط غداً، انما لأنه شعر بعدم انسجام المهمة.
ليست هذه حال مجتمع «حزب الله» فقط، انها حال اللبنانيين من خصوم الحزب ومن مؤيديه، فلبنان لم يسبق أن اختبر التدخل في مصائر دول أخرى. صحيح ان «حزب الله» في لحظة قتاله هناك لا يُنفذ مهمة لبنانية، لكن ذلك لا يعني أبداً ان لبنان سيكون بمنأى عن نتائجها، سواء لجهة مستقبل العلاقة بين جماعاته، أو لجهة مستقبل العلاقة مع سورية.
الحياة ـ ٢ يونيو ٢٠١٣