فلسفة الثورة ـ عناية جابر

مقالات 0 admin

في غمرة الاخبار التي تتحدث عن اكتشافات الغاز الجديدة في البحر الأبيض المتوسط والثروات الموعودة التي ستأتي بها لتضاف الى الثروات الغازية والنفطية التي أنعم الله بها على بلادنا الجميلة ثمة خبر من نوع آخر مرّ على شريط الأخبار مرور الكرام. الخبر من منظمة العمل العربية ويشير الى وصول أعداد العاطلين من العمل الى عشرين مليون بني آدم. معلومة من هذا النوع لم تثر أحداً ولم تستوقف المراقبين ولا جمعيات حقوق الإنسان ولا حتى أي جمعية أخرى بما فيها جمعيات الرفق بالحيوان. عشرون مليون عربي عاطل من العمل حسب إحصاءات هذه المنظمة المعروفة بارقامها المتحفظة جداً لم تجد من يتوقف عند معانيها الإقتصادية والإجتماعية على توازن مجتمعاتنا ككل.

الإعلام العربي مشغول بصراعات القبائل في ليبيا واليمن والطوائف في مصر والعراق وسوريا ولبنان. مشغول بالربيع العربي وكأن الإنتفاضات لا تولدها الإختلالات الإجتماعية الناتجة عن مثل هذه الإحصاءات البائسة. كأن الشباب المنتفض في ساحات عواصمنا لم ينزل الى الشوارع إلا لكي يطبق أحكام مونتسكيو وجان جاك روسو على شكل الدولة العربية التي بالكاد نشعر كمواطنين بوجودها.

الإعلام يركز على مشاكل السلطة والحكم وهويات القادمين الجدد الطائفية وينسى أن في بلادنا مشكلة تتمثل بقدوم اربعة ملايين شاب جديد طالب للعمل سنويا. يجري ذلك في وقت لا تستطيع فرص العمل المتوافرة امتصاص اليد العاملة السابقة التي تبلغ نسبة البطالة فيها 16 بالمائة حسب الاحصاءات الرسمية مقابل 7 بالمائة كمعدل وسطي عالمي. وفيما تكتفي منظمة العمل العربية بهذا الرقم المتواضع تشير منظمات عربية ودولية أخرى الى رقم خيالي يتعدى حدود الخمسين مليون عاطل من العمل نصفهم من الشباب طبعا. ظاهرة متفجرة لطالما حذر علماء السكان العرب من مفاعيلها البركانية بسبب هيمنة نمط إقتصادي ريعي لا يتيح خلق فرص العمل الضرورية الموازنة للطلب.

في الاجمال يقدر هؤلاء العلماء فرص العمل المطلوب من الاقتصاد العربي ان يؤمنها للشباب خلال السنوات الاربعين القادمة بحوالي 16 مليون فرصة للعراق و14 مليون لليمن و13 مليون للجزائر و12 مليون للمغرب و11مليون للسعودية و10 مليون لسوريا و30 مليون لمصرالخ. أرقام خيالية في بلاد نخبها لا تعير اي اهتمام لما يمكن أن ينتج عن هذا الطلب من إختلالات بنيوية تطال حياة الناس وشروط بقائهم على قيد الحياة.

من نافل القول في هذا المجال أن فرص العمل تتعدى نطاق العمل الخاص ذاته لتطال مختلف أوجه الحياة البشرية بدءا بالإقتصاد ووصولا الى التوازن السكاني والسكن والصحة والبيئة والتنظيم المُدُني والطرقات والنقل وجميع وسائط العيش بالمعنى الواسع للكلمة.

أرقام منظمة العمل العربية تأخذ معناها الحقيقي عندما نعرف أنها تعكس نمواً استثنائياً للسكان شهدته بلادنا خلال السنوات الخمسين الماضية. فالتقديرات المتوافرة تشير الى تضاعف عدد سكان هذه المنطقة من ثلاثة الى اربعة مرات أي من حوالي المائة مليون نسمة الى حوالي الاربعمائة مليون دفعة واحدة.

هذا الإرتفاع الجنوني لعدد السكان في مدة قصيرة جداً كالمدة التي نتحدث عنها كفيلة بخلخلة اقوى الدول وأغناها وأكثرها تنظيماً وإعداداً للمستقبل فكيف ببلاد حالها كحالنا تعيش على ما تيسر وبدون اي تنظيم أو إعداد مسبق للمستقبل. ففي البلاد الأوروبية مثلا حيث لا يزيد معدل النمو السكاني السنوي عن اثنين بالمائة تعجز الحكومات المعروفة بدقة استشرافها عن تأمين شروط نمو الطلب على العمل بمعدلات تلبي هذه الزيادة فما بالك في بلادنا حيث الحكومات مشهورة بدقة لا وعيها وكثرة قلة اهتمامها باستشراف الحاجات المستقبلية وحيث يزيد النمو السكاني عن اربعة بالمائة.

أن تغيب حكوماتنا السابقة والحالية عن الوعي حيال هذا النوع الاستثنائي من الظاهرات البركانية لا يثير القلق بقدر ما يثيره تعامي النخب الجديدة الطامحة الى السلطة عن أي قراءة للموضوع أو عن اي تشخيص للمشكلة المطروحة وإلحاح اجتراح حلول عاجلة لها. وما يثير الرعب أكثر أن غالبية النخب الحالية التي إن قاربت الموضوع فمقاربتها لا تتعدى الطرح التقني والأخلاقي.

وبينما تشير كافة الدراسات المتخصصة، إلى أي مدرسة فكرية أو سياسية انتمت، الى ضرورة إجراء تعديل جذري في هيكلية قطاعات الإقتصاد العربي على نحو يقلل من حصة الريع فيه لصالح القطاعات المنتجة القادرة على امتصاص اليد العاملة البطّالة، يزداد القلق على المستقبل عندما نرى إمعان النخب الجديدة في تقديم مقترحات إقتصادية ليس فقط لا تعدل الصورة بالوجهة المطلوبة بل تزيد من تضخم القطاعات الريعية القليلة الطلب على العمالة.

تنتفض الشعوب عادة من أجل التعبير عن مشاكلها الأساسية ومن أجل حمل نخبها على اجتراح الحلول لها. عادة. لكن ربيعنا العربي أبى إلا أن يتميّز حتى في هذا المجال. فالأولوية للمشاكل المتعلقة بأشكال السلطة وهويات الحكام القرابية والدينية. الجائع عندنا كأنه متخم. والبطّال كأنه يعمل ويسكن ويعالج منذ قرون.

توزيع الموارد الإقتصادية في بلادنا مشهود له بقلة العدالة والتفاوت الجغرافي والإجتماعي. أقلية من السكان لا تتعدى السبعة بالمائة من السكان العرب تسيطر على تسعين بالمائة من الموارد تبذرها على نحو غير عقلاني مقابل أغلبية لا يبقى لها غير عشرة بالمائة لتعيش. والأنكى أنه حتى هذه العشرة بالمائة غير موزعة بشكل عادل على بقية السكان.

موارد إقتصادية على كثرتها غير كافية، والمتوافر منها يبذر على غير طائل ويوزع أغلب الباقي على قلة وأقله على الكثرة، بركان سكاني هائج، بطالة بالملايين، توزع سكاني غير طبيعي تغص المدن الكبرى بإمكانية استيعابه، سكن بالقبور، غياب أي ضمان للصحة والبيئة والنقل والشيخوخة،تهجير للشباب والأدمغة، تصحر وجفاف، هو بعض من مشاكل هائلة ملموسة تنتظر الأجوبة الملحاحة فيما، ويا للغرابة، تغيب عن أدبيات الإنتفاضات العربية وهمومها.

الثورة عندنا للفلاسفة فقط ؟

القدس العربي ـ  APRIL 18, 2013

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة