إرهاب «الهويات» القلقة! ـ يوسف الديني

مقالات 0 admin

نحن أمام موجة جديدة من «الإرهاب»، وأيضا أمام خطاب جديد من تبنيه والتعاطف معه.. أحداث بوسطن كشفت عن وجه جديد من التطرف الفكري، وهو بالمناسبة ليس بالضرورة تطرفا دينيا إذا ما أخذنا بالاعتبار سيرة الأخوين الشيشانيين المشتبه بهما وكل ما صدر عنهما على «فيس بوك» و«تويتر» وشهادات الأسرة والأصدقاء وزملاء الدراسة المذهولين مما جرى والمنكرين له.

إذا جاز لنا أن نأخذ واحدة من أهم المدارس في تحليل ظاهرة الإرهاب وهي نظرية الشبكات التي طرحها المحلل النفسي الدكتور مارك سيغمان في كتابه «فهم الشبكات الإرهابية» فإننا سنرى أن عملية بوسطن لا تنطبق عليها، كما هو الحال في تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) في أميركا والضربات التي تعرضت لها بلدان إسلامية وعلى رأسها المملكة. تقول النظرية ببساطة إن كثيرا من المجموعات التي انضمت إلى العمل المسلح في معسكرات التجنيد بمناطق التوتر في أفغانستان والشيشان والبوسنة اتخذت قراراتها بناء على نصائح موجهة من معارف سبقوهم في التجربة أكثر من كونهم قد انخرطوا لدوافع وأسباب فكرية أو قناعات ذاتية، وهذا ما أكدته اعترافات وتجارب كثير من المنخرطين في المرحلة الأفغانية التي كانت تمهيدا للطور الأول من الإرهاب القائم على «الشبكية».

الطور الثاني من الإرهاب إذا جاز لنا الاقتباس من التقنية هو انتقال من العمل الشبكي إلى العمل عبر الاتصال عن بعد الـ«وايرلِس» ويعتمد على تبني ثلاثة شروط هي أساس تحليل أي ظاهرة عنف ديني أو آيديولوجي، بغض النظر عن ارتباطها بعرق أو دين أو دولة أو حتى بيئة خصبة للتطرف، هناك عادة معتقد وطقس «ستايل»، وأيضا دوافع سياسية، فـ«القاعدة» منذ تحولها إلى تيار معولم بعد تجربة القتال في مناطق التوتر تحول المعتقد لديها من «النصرة» وطرد المحتل إلى ملاحقته واستهدافه في أي مكان في العالم، بل ثم الانتقال إلى استهداف الحكومات الإسلامية باعتبارها حليفة للغرب، والآن تحول الوضع إلى طور جديد «نفسي»، ردود فعل عمياء وعشوائية تعبر عن «هوية» قلقة وغير متصالحة مع ذاتها كما يمكن استخلاصه من سيرة الأخوين، وأيضا كما يمكن تتبعه في الطور الثالث من الإرهاب الرقمي الذي يغيب فيه التطرف الديني بمعناه التقليدي الذي رسخته معتقدات الجماعات الإرهابية والذي يبدأ بتصور مختلف للعالم، دار الحرب وللآخر المرتد والمجتمع الجاهلي.. إلخ.

الطقوس أيضا مختلفة في الطور الجديد من الإرهاب، حيث عدم الاعتماد على ستايل «القاعدة» والجماعات التقليدية وهو توثيق الحدث والاهتمام بعمل حملة إعلانية كبيرة وتصوير الوصية والإسراع في بيانات التبني.. إلخ، بينما الآن ومنذ تفجيرات مدريد ولندن وصولا إلى مرحلة جديدة من الإرهاب الفردي الفوضوي الذي كان واضحا في مثال البراح والأخوين الشيشانيين لا يعدو العمل أن يكون بدائيا يعبر عن «عزلة» وتصرف فردي، وهو الأمر الذي يجب أن يقرأ في سياق إيجابي وسلبي معا، فالإرهاب النوعي الضخم المعتمد على الشبكة والخبرة في طريقه للأفول، ليس بسبب انحسار مصادر التلقي للتطرف الديني أو تغير في رؤية واستراتيجية «القاعدة»، بل للإجراءات الأمنية المشددة، ثم بدرجة أكبر انحسار مصادر التمويل المالي ومراقبة الحدود واستنزاف العناصر القيادية في حروب مناطق التوتر، كما أن «القاعدة» الآن تعيش مرحلة «إعادة البناء» في دول الثورات ومناطق التوتر التي وبكل أسف كلما ابتعدت عن ربيعها الديمقراطي اقتربت أكثر من ربيعها «القاعدي».

مكمن الخطوة هو في تعقيد وصعوبة علاج المرحلة الجديدة من الإرهاب «الفردي» المرتبط بالهوية القلقة، حيث لا يمكن التنبؤ بتحول القناعة في ظل غياب الأسرة، وأيضا الإعلام البديل لخطابات التطرف، كما أن مناخ العولمة وتلاشي الحدود حتى في ظل الاهتمام بالمسائل الأمنية سيلقي بظلاله على هذا النوع من الإرهاب، فالفرد «المأزوم» هو الضحية الناتجة من صراعات كبيرة قد تفقده معنى ذاته، وبالتالي ينجرف نحو التطرف بدافع الهوية القلقة المصابة بغضب عارم تجاه الذات والآخر حتى من دون أن ينخرط في تجربة دينية متطرفة أو يتعرف على مجموعات إرهابية، العالم الافتراضي حينها سيتحول إلى مصدر ممتاز لطبخ الفكرة وإنضاجها وتحويلها إلى فعل متى ما وجد الدافع الذي عادة ما يرتبط بوصوله وضعه النفسي للذروة، وهو الأمر الذي سيغيب معه أي دافع سياسي أو انتقامي محدد غير عزلة الهوية القلقة، وربما كانت تغريدة الأخ الأكبر تامرلان أنه لا يملك أي صديق أميركي طيلة فترة إقامته، مفتاحا لفهم هذا الطور الجديد، هناك عادة ارتباط بين الأفكار العنفية وبين التطرف سياسيا كما في هذه الحالة أو دينيا كما في حالة خطاب «القاعدة» التقليدي، وبحسب الفيلسوف الفرنسي كلود ليفي ستروس عالم الاجتماع الشهير: «لا شيء يشبه الفكر الأسطوري، أكثر من الآيديولوجية السياسية».

والحال أن تشخيص هذا النوع المعقد من الإرهاب «الجديد» المتصل بالهوية ينسحب على اجتراح أي حلول جاهزة ومعلبة، فالحلول الأمنية مؤقتة، وصداها السلبي كبير، لا سيما في بلد كالولايات المتحدة، كما أن الغرق في تتبع خيوط العلاقات الاجتماعية لهذه الشخصيات بناء على نظرية الشبكات سيفضي إلى الاشتباه بأبرياء، وبالتالي تحويلهم إلى نماذج مكررة يمكن أن يخلق لديها نفس الدافع، وعليه لا توجد وصفة حل جاهزة وحاسمة، لكن من المهم جدا أن تعيدنا هذه الحوادث إلى المربع الأول، وهو التقصير في إيجاد ثقافة بديلة عاقلة وواعية قوامها الخطاب الديني المعتدل والاهتمام بنشر هذا الخطاب باللغة التي يفهمها الشباب وحوارهم بشكل جاد وعلني في الهواء الطلق عن هذه القضايا التفصيلة بدلا من إعلانات التحذير من الإرهاب مدفوعة الأجر والتي تشبه إعلانات التحذير من التدخين التي طالما سخر منها المراهقون.

 24 ابريل 2013 ـ جريدة الشرق الاوسط

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة