عواقب الأفول الأميركي الطوعي عن العالم ـ حسن منيمنة

مقالات 0 admin

التوجه الانكفائي الذي تعتمده السياسة الخارجية للرئيس الأميركي باراك أوباما ليس جديداً. فمنذ استتباب أحادية القوة العظمى، إثر انهيار المنظومة الاشتراكية في التسعينات، والحديث في أوساط الفكر السياسي في الولايات المتحدة هو حول كيفية تجنب الانحدار نحو عسكرة النفوذ الأميركي في العالم. فإذا كان التأثير الأميركي على الدول والمجتمعات المختلفة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، أمراً مرغوباً فيه من جانب هذه الأوساط، فالتقويم الراجح لديها هو أن تصاعد النفوذ العسكري من شأنه أن يؤدي إلى توريط الولايات المتحـدة بدور شرطي العالم، مستنفداً طاقاتها ومستنزفاً قـدرتها على الاستمرار في الموقع الطليعي. ولا يـعني هذا التقويم الدعوة إلى الانكفاء غـير المـشروط للقوة العسكرية، فالرؤية كانت ولا تزال أن ثمة وقائع تقتضي اللجوء إلى هذه القوة.

المسألة مسألة موازنة بين تطوير الأداة العسكرية وتجهيزها بالشكل الأمثل من جهة، وإقامة الإطار السياسي المدني الذي يحتفظ بقرار استعمال هذه الأداة من جهة أخرى. فالأساطيل والقواعد والمرافق العسكرية مستمرة في انتشارها على مدار الكوكب، إلا أن استدعاءها يبقى مقيداً بالقرار السياسي. وهذا القرار ذهب في اتجاه تكرار الاستدعاء في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش، فيما الرئيس أوباما شاء له أن يميل إلى التقليل، نظرياً على الأقل. والشق المقابل في أوساط الفكر السياسي الأميركي والملازم لمنحى التقليل، الذي هو المفضل لديها، هو التعويل على الـعلاقات الـمتـينة مع الحلفاء والشركاء في المناطق المختلفة، والذين يمكن الاطمئنان إلى اصطفاف مصـالحـهم وقـيمهم مع مصـالح الولايات المتحدة ومنظـومة الـقـيم لديها. فالمطـلوب يكون إذاً استبدال النفوذ العـسكري المباشر بعلاقات سـياسـية مـع قوى صديقة تلتزم دور الشرطي في مناطقها، ومن هذه القوى الهند لجنوب القارة الآسيوية.

فالـتبديل الأبرز في التـفاعل الأمـيركي مع واقـع جنـوب آسـيا في العقدين الماضيين هو إقرار واشنطن بأن محاوِرها الأول في الـمنطقة هـو الهـند، وليـس حـليفتها التـقليدية بـاكســتان. فتزامناً مع انتهاء الحرب الباردة، تخلت الهند عن توجـهاتـها الاشـتراكية لتـصبح في اعتمـادها للرأســمالـية والديـمـوقراطـية النظير التلقائي للولايات المتحدة في منطقـتها. ومـع الوهـن الذي يفـتك بباكـستان، الغارقة لتوّهـا في أزمـات سـياسـية عضال والمنخورة بالإرهاب المنتج محلياً والمـسـتورد على حد سواء، ومع اتضاح واقع أن التنافـس الأبـرز على مـسـتوى قارة آسـيا ككل هو بين الهند والصين التي تحـتاج الولايات المتحدة إلى ضبط تصاعد نفوذها، تبرز الهند كحليف طبيعي يمكن التعويل عليه في خطوات تضمن مصالحها ومصالح الولايات المتحدة معاً… بدءاً من جهود مـكافـحة الإرهاب، مروراً بالتزام مهمات التأهيل للدولة الـناشئـة في أفغانـستان، وصــولاً إلى القبـول ببـعض المشاركة في التضييق على إيران.

وعلى رغم أن الخطوط العريضة للمصالح الأميركية والهندية متوازية، يبدو أن طاقم أوباما يتصرف كأن التماهي يتعدى المجمل ويشمل التفاصيل، بل يبدو كأن ثمة تفويضاً مطلق الصلاحية للهند في جوارها. إلا أن هذا المنحى بدأ يأتي بنتائج عكسية. فالتوازن في دول الجوار كان في الماضي قائماً على استدعاء التنافس الهندي-الباكستاني للحصول على هامش من المناورة المحلية. ومع تراجع قدرة باكستان على التأثير، اعتمدت الجهات الحذرة من الهند في المنطقة على واشنطن نفسها بديلاً. والواقع أن حكومة جورج دبليو بوش كانت عزّزت في آن علاقاتها مع الهند ومع الدول المجاورة لها، فتمكنت من احتواء الريبة الشائعة في أوساط بعضهم في المنطقة إزاء الجنوح الهندي إلى التسلط. ولكن في السنين الأخيرة، في عهد أوباما، أخذ الدور الأميركي بالتقلص، ما أدى إلى اختلال توازنات.

ففي سريلانكا التي اجتهدت الشريحة الحـاكمـة فيـها لضـبط النـفوذ الـهنـدي لعـقود، تم اسـتـقدام الصــين كـطرف مـقابل للحـد من نـفـوذ الهند. وهذا الاستقدام ترجـمة لـواقع اسـتـتب في سـريلانـكا مع تـنامي الـدور الاقتـصادي للـصين فيها. وإذ تـشـكل ســريلانـكا بالنـسـبة إلى الـصـين تطويقاً للهند التي أرادت من خلالها الولايات المتحدة تطويق الصين نفسها، فإن بروز الحضور الصيني أتاح المجال لتطورات سياسـية كانت مكبوتة في أيام الحاجة إلى استدعاء الغرب لموازنة الهند. فـجـنـوح سـريـلانـكـا إلـى السلـطوية لم يـعد أمـراً تحتـاج مـعه سـلـطاتها إلى الإنكار والتصحيح، بل هو حالة مرافقة لتفـوق الحضور الصـيني على الهندي فيها.

وإذا كانت الهند احتوت نيبال (على رغم استمرار التمرد الماوي فيها)، واستوعبت إمارتي سيكيم وبوتان الجبليتين الصغيرتين، أولاهما بالكـامل والأخرى حيث للأمر أهمـية، فيما هي تعمل لاستكمال بسـط نــفوذها على جـزر المـالديـف، على رغم بعض العوائق، فإن الدولة الأهم في الجوار الهندي، بعد باكسـتان المريضة، هي بنغـلاديـش. وفـيما يـعتـبر الحـزب الحاكم في بنغلاديــش، رابـطـة عوامـي، الملتزم بالـعلمانية مع لمحات خطابية اشـتراكية لم تعد متـجانـسة مع سـياساته، حزباً موالياً للـهند، فإن الحزب المعارض، الحزب القومي البنغالي المتحالف مع حزب الجماعة الإسلامية، والذي عوّل في الماضي على باكستان لنصرته، ثم تمكن من التواصل مع الولايات المتحدة مع بـدء تـراجـع الـهـيـبـة الباكسـتانيـة، يـجد نفـسـه اليـوم باحـثاً عن نـصـير جـديـد، والـصـين هي الـمرشـحـة الأولى بطبيعة الحال، وهذا لا يمكن أن تتحمله الهند. وعلى أساس هـذه المـعادلات الجـديدة يمكـن فهـم الجنوح الصريح إلى السلطوية في بنغلاديش، لمصلحة طرف موالٍ للهند هذه المرة، مقابل السلطوية المتنافرة معها في سريلانكا.

فبنغلاديش التي كثيراً ما طرحها الغرب كنموذج للتناغم الممكن بين الثقافة الإسلامية والقيم الديموقراطية، تفتقد اليوم كثيراً من هذه القيم وتسعى جاهدة، من خلال برنامج «رابطة عوامي» إلى نزع الصبغة الإسلامية عن المجتمع من خلال ممارسات تستدعي لتوّها نتائج عكسية.

والواقع أن شبه الانسحاب الطوعي المتسرع لواشنطن من جنوب آسيا قلب معادلات وأحيا السلطوية، ولم يمنح الهند مزيداً من النفوذ، وفيها كلها إضرار بالمصالح الأميركية. فالحال إذاً أن ليس من السهل التخلي عن دور القوة العظمى الوحيدة، لا في الهند وجوارها، ولا طبعاً في الشرق الأوسط بملفاته المتعددة.

الحياة ـ ٥ مايو ٢٠١٣

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة