هل يعرف الغرب فارق الحرية بين الثورة والحرب؟ ـ مطاع صفدي

مقالات 0 admin

كيف يمكن إنقاذ الثورة السورية، انتشالها من بين الأيدي العجيبة والمشبوهة المتلاعبة بها. كان للثورة هدف مركزي واحد هو إسقاط نظام الاستبداد، وكانت تظاهرات الشارع هي الطريقة الجماهيرية للإعلان عن انفصال قاعدة المجتمع عن قمته المتسلّطة. فالحُكْم الذي ألغى الشعب منذ عقود سحيقة، لا يعتبر نفسه مسؤولاً أمام قوة أخرى لم تعد موجودة.

ذلك الفكر الأحادي يذهب بأصحابه إلى عين المصائر الدموية الرهيبة التي انتهت إليها أحوال السلطة الدمشقية راهنياً، لكن الثورة بالمقابل المشتعلة عنفياً منذ سنة ونصف وأكثر، ليست هي في حال أفضل من عدوها كثيراً، لقد أمست أشبه بالثوب الفضفاض الذي يتسع لكل الأصناف الثانوية الطاردة أو المشاغبة على صنفها الأصلي.

لقد احتلت المعارك العسكرية الصدارة من الحدث الثوري، بل أصبح كل تقدير لمجرى الثورة متوقفاً على حصائل هذه المعارك، والرأي العام عربياً ودولياً إنما يستند إلى أخبار الوقائع اليومية هذه، كيما يفرز لونيّات مواقفه المتغيرة بحسب معطيات الميادين العملية نفسها. غير أن (الثوار) عامة لا يعتبرون أن العسكرتاريا قد اختزلت حراكهم، وأن الصراع لم يتبق له إلا سبيل القوة المادية وحدها لاستمراره أو لتسجيل نتائجه التي يحلم بها. هنالك حقيقة أخرى قد تكون هي المنطلق الأول لكل هذا الذي أصاب المجتمع بما يشبه فعلاً زلزالاً أصاب هياكله جميعاً، إنها حقيقة هذا الزلزال نفسه الذي لا تسمية له سابقة على أحداثه يمكن أن تفيه حقه من الوقائع والأحوال وأصدائها الراهنة والمستقبلية.

الثورة ليست سوى قمة البركان في الأرض التي هي أرض الزلزال المتمادي، والقمة البركانية لن تكون قادرة على قذف كل ما في باطنها من جحيم مستعر قد تطلق جداول من النيران السائلة، قد تفتح جبهات لاهبة ومتوزعة في جغرافيا الأرض المهتزة، لكن دون أن تتَّبع سياسة الأرض المحروقة لها ولعدوها في وقت واحد. فتلك هي رحلة المنتهى بالنسبة للجميع، ولن يحين أوانها إلا عندما يفلس البركان من نيرانه، ولا تعود قمته تنفث سوى الدخاخين السوداء المسمومة، تعمي العيون، وتخنق الصدور، وتشتت الناس زرافات ووحداناً في كل الاتجاهات.

إفلاس بركان الثورة من جمراته اللاهبة الذهبية، واختناقه بالدخاخين السوداء المسمومة، تلك هي تراجيديا سريالية، لكنها تصير واقعية رهيبة عندما تفقد الثورة حسّ التمييز بين من وما ينصرها، ومن وما يهزمها. تجارب التحالفات المتعارضة كادت تتخاطف هوية الثورة من لدن أصحابها. لم يكن التلقف الغربي لبدايات الانتفاض الشبابي خالص النوايا أو بريء الأهداف. فكان افتقار القواعد المتحركة إلى طبقة من القيادات الراعية والخبيرة، مع الاعتماد على بعض الريادات الفردية والعفوية هنا أو هناك، جعل الغرب ذلك يشعر أنه قادر على أخذ الثورة من قممها العليا، فيحولها من خطر مستقبلي يهدد خرائطه المحلية، إلى أداة تلاعب استراتيجي من نوع فريد. فالربيع الذي هبّ ضد شبكة الواقع الاستبدادي الإفسادي السائد، المصنوع والمدعوم بالعبقرية الأوربية الاستعمارية منذ عشرات السنين، هذا ـ الربيع ـ الذي يمكن أن يشكل الخطر الأعظم على مصالح الإنسان الأبيض، هذا الوعد الدهري شبه الأزلي بمجيء الانقلاب العظيم سوف يطاح بأحلامه دفعة واحدة ما أن يتسلم العدو التاريخي نفسه مقاليد كل الحركات الشعبية المثارة ضده، في أصلها وجوهرها.

لم يكن من المبالغة تماماً أن تتصاعد شبهات الثورات المصطنعة، والمصنفة تحت السيناريو الغربي الشهير الموسوم بالفوضى الخلاقة. كان العالم العربي يقدم ثوراته والغرب يقلبها إلى فوضويات لعبية دموية رهيبة؛ خلال كل ثورة، كل فوضى، لا بد أن ينهار كل ما هو قائم، حتى بحجة ضرورة التغيير. على أن هذه الضرورة لن يعرف أحد لها وجهاً قريباً يوماً ما، فقد دمر النظام السوري مئات الألوف من منازل المدنيين من أجل ملاحقة (المسلحين). هنالك بلدات وأحياء كاملة أمست قاعاً صفصفا فالنظام افتدى نفسه بإبادة حضارة سورية رائدة، منذ آلاف السنين.

كل ثورة تاريخية مهدّدة بالتحوّل إلى فوضى ما أن تفقد مركزية هدفيتها الإنسانية الجامعة، إذ حينئذ تصبح مطيّة شبه آلية لكل مخطط انتهازي، بتصيد ظروف الاضطراب ليحقق مصالح مشبوهة، والغرب هو سيد الانتهازيين في هذا العصر العولمي، لم يعد يخشى ثقافة الثورات، لم يعد يكافح الثورات قبل أن تولد، بل يتركها ترى النور ليقبض على كل أسرارها ثم ينقلب على نفسه إلى واحد من أخطر قياديها السريين بل العلنيين.

قصة الثورة السورية مع الغرب هي أحدث نموذج صارخ عمّا ينتظره العرب من العلاقات الملتبسة عينها إزاء متغيراتها الثورية الكبيرة القادمة، ما يُشاع عن حجم الارتباك والتردد، وإثارة المخاوف من المتشدّدين والمتشردين.. وإلى ما هنالك من أعذار المواقف المتناقضة، ليست مجرد ردود أفعال آنية غير مقصودة في ذاتها، بل هي إشارات السياسة المعطِّلة للقرارات الحاسمة، إنْ اتخذت قبل أوانها، ما يوحي كأن الغرب لم يتدخل حتى اليوم في مجرى التحولات السورية، وكأن أمريكا سيدته، لا تزال نائية بنفسها وبرئيسها عن كل تدبير فاصل، في حين أنها هي وحدها القادرة ومنذ البداية على تحقيق تلك الضربة القاضية.

مفهوم ‘الضربة القاضية’ ليس بعيداً عن الثقافة السياسية وإن كان أقرب دائماً إلى أنواع الصراعات العنفية. في بداية الانتفاضة السورية، لم تكفّ ألسنة الخارجيات والقيادات الغربية عن إطلاق إنذارات الرحيل والانتهاء، نحو بشار الحاكم، وهي اليوم جميعها تطالب الثوار بالتفاهم مع قيادته ودولته. ليست الأمور محسومة لا اليوم ولا غداً. هذه النتيجة ليست تحصيلَ حاصل في أرض المعارك. بقدر ما هم ‘أصدقاء سورية’ لم يحصلوا بعد على كمية الموت والخراب والأهوال التي يتوقعونها. فحين لا يتبقى سوى العنف وحدَه سيدَ المواقف والقرارات ما بين الأطراف المتنازعة، لا يكون على المراقبين خارج الساحة سوى تدوين نقاط السلب والإيجاب لهذا الفريق أو ذاك.

ما يفعله شهود الزور هؤلاء بحكم تكرار المجازر والمقتلات اليومية المهولة، هو أنهم قد يرددونها من بين أخبار كل صباح في وسائلهم الإعلامية. بات إعلام المجازر الأسدية جزءاً روتينياً مسموحاً نشرُه وتداولُه أحياناً كشرط لضرورة الانتهاء من عقابيله، ولكن عندما تدخل أسلحة الدمار الشامل ساحة الحدث العنفي والإعلامي معاً، فليس لدى الغرب وسيده الأمريكي الأسمر (أوباما)، ما يُفعل سوى التمحيص في المعلومات حول حقائق الواقعات(!)، فالغرب لن يتخذ قرار الحرب لذاته أولاً أو لإحدى دوله، ما دام الآخرون في النصف الثاني من العالم، ينوبون عنه وعن مصالحه بحروبهم ومجازرهم. حتى استدعى الأمرُ أن تقوم دولة كوريا الشمالية بتهديد الشمال الأمريكي نووياً. فالمسألة لم تعد مجرد حروب بالوكالات من الدرجة الثانية أو الثالثة.

هذا التهديد قد يثير السخرية في ظروف الحاضر الدولي الراهن، لكن (البنتاغون) الأمريكي يرى فيه إمكانيةً مستقبلية قائمة، بينما في الوقت عينه لا ترى أمريكا عامة مثلَ هذه الإمكانية تنبعث من مهالك الشرق الأوسط، وإن كانت إسرائيل وحدها تعتبر نفسها حارسة نووية للمنطقة كلها، معها وضدها في وقت واحد؛ ولكن عندما يصبح هذا الشرق الأوسط هو مصدر الإنذار العدمي المطلق بدءاً من تعميم (فوضى) الحفاظ على الأسلحة الكيماوية تحت وطأة الصراعت الدموية المتنقلة في الساحة السورية، هل سيكون هو المبشّر بنهاية العالم مع انفجار الحرب العالمية الثالثة.. بل الأخيرة في ثقافة الإنسان.

ما يرفض أن يفهمه الغرب هو أن حروبه بالوكالات ما وراء البحار قد انتهى عصرُها، وبالتالي فإن التلاعب بمصائر ثورات تاريخية كبرى، من نوع الحدث الربيعي الراهن، راح يفرض أشكالاً من التعجيز الذاتي على عناصرها وأحوالها، وجعلها تنحدر إلى مهالك القتل والتدمير كغايات في ذاتها، فإن إطلاق هذه الفوضى الجهنمية هو الذي سوف ينسف كل الحدود ما بين الأسلحة عاديةً كانت أو تدميرية شاملة، وقْتها لن تنفع مواقف الارتباك واصطناع التردد والتروي الكاذب.

إذا كانت كوريا الشمالية تجرأت علي تهديد أمريكا بالدمار النووي، لماذا لا يكون عالم العرب والإسلام هو الممسك حقاً بأهم مفاتيح السلام والحرب إقليمياً ودولياً عاماً، أليس هذا هو ما يقرّ به علماء الاستراتيجيا الغربية في كل مناسبة. فليكفّ هذا الغرب عن ألعابه الصبيانية، عن العبث بأحشاء الثورات الربيعية، إنها الفرصة الأصدق لفوز هذا العالم بحريته وإنسانيته. هذان الشرطان الضروريان اللذان يبشر بهما الربيع العربي لشعوبه وإنسانيته في لحظة واحدة.

القدس العربي ـ  MAY 5, 2013

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة