قعبور: الناس قبل القضية ـ حاورته جهينة خالدية

مقالات 0 admin

الناس الذين يغني لهم أحمد قعبور، تغيروا. كل الناس يتغيرون، يقول. “أنا تغيرت أيضاً، تخففت من الإيديولوجيا، وقررت ألا أكون عبداً لها، وانطلقت في البحث عن مشاريع فنية وثقافية جديدة لا تلغي القديم، بل تشكل إمتداداً له”.

المدينة التي يعشق أزقتها، تبدلت أيضاً. حياة بيروت اليوم تسير على عجل، وترزح تحت واقع متمثل في شرخ عميق يصعب ترميمه. في المدينة يبحث الناس عن أشياء كثيرة فقدوها، وفي بحثهم هذا يخسرون الكثير من روح بيروت. إلا أن أحمد قعبور يبدو اليوم بيروتياً أكثر من أي وقت مضى. يخصص قسماً كبيراً من حديثه إلى “المدن” للمقارنة بين بيروت اليوم، وبيروت عمر الزعني الذي حقق قعبور حلمه بأن غناه في عمل صدر قبل نحو عامين. غنّاه ليقول: “أنا مثلك يا عمر، أعشق المدينة التي تعشق”.

غنى لبيروت ما بعد الحرب، من منبر “تلفزيون المستقبل”، “من دون أن يخشى الصبغة السياسية. “غنيت لمستقبل البلاد، لا لرفيق الحريري”، يقول، “راهنت على أن يفرض العمل نفسه بقيمته الجمالية، لا بتجييره لطرف دون آخر”.

تغير أحمد قعبور، بدّل في تفكيره السياسي، في نقلة يعتبرها صحية وصحيحة. لم تعد أغنياته شعاراتية، بل التفت إلى الناس في العاصمة كما في الجنوب وفلسطين وسوريا، وإلى قصصهم المعيشية. هذه أيضاً أغنية ملتزمة – كما يقول – تلتزم بمبادئ العدالة الإنسانية.

كلمات الفنان ما زالت تخرج من أزقة العاصمة، لا من صالوناتها السياسية. أغنياته المخصصة للأطفال ولشهر رمضان أدخلت البهجة إلى قلوب كثيرين، وصنعت لهم ذاكرة طفولية لا تُنسى، وسترتبط دوماً بصوته، مع “علّوا البيارق علّوها” التي تحكي قصة طفولته الشخصية.

غنّى أحمد قعبور، الجمعة، للأطفال السوريين في المخيمات الفلسطينية في لبنان، خلال حفلة خيرية في “الجامعة الأميركية في بيروت”، وأهداهم “أناديكم”، و”بدي غني للناس”، و”حق العودة”، و”سوريا عم تنبض” التي أبقاها شبه سرية إن أمكن القول. فيما يخبئ في جعبته أغنية جديدة يمتد موضوعها من حلب إلى طهران، مروراً بالقاهرة وبيروت وفلسطين.

تحاوره “المدن”، بعد طول غياب، بل لعل الحوار مع أحمد قعبور يبدو دائماً أقرب إلى الدردشة مع ابن الحي الذي لا يني يغني للناس.

لمن غنيت “سوريا عم تنبض”؟

الأغنية ألفتها قبل سنوات ثلاث، بناء على طلب شركة إتصالات سورية أرادت أغنية ذات طابع وطني. بعد إنجاز الأغنية، طُلب مني تغيير بعض كلماتها، كاستبدال جملة “سوريا يا نسمة حرة”. خافوا من كلمة “حرة”، فكتبت: “سوريا يا نسمة بكرا”، فخافوا أكثر من بكرا! في مطلق الأحوال، وعلى حد علمي، لم تُبث الأغنية عبر الشركة، لكنها انتشرت أخيراً على الإنترنت، وعبّرت عن شباب كثر وعن ألم سوريا اليوم.

لكن ألم تؤلف الأغنية لشركة كانت في كنف النظام السوري؟

الأغنية لم تكن للنظام، غنيت لعشرين مليون سوري، بمعزل عن المنبر الذي سيبث الأغنية. وفي الواقع، لم تُبث عبر الشركة، بل انطلقت من النافذة الصحيحة، أي بواسطة الناس الذين تشاركوها عبر “يوتيوب”. وفي المقابل، أنا لم أغنّ يوماً في سوريا، لأني لطالما اشترطت ألا أغنّي في مسرح وصورة رئيس الجمهورية فوق رأسي، بغض النظر عن اسمه وهويته.

هناك دوماً رغبة في “تجيير” الأغنية. وما حصل مع “سوريا عم تنبض” حصل في أغنية “أناديكم”، التي تحولت فجأة إلى أغنية الثورة الفلسطينية. في حين أنها أغنية ضد كل معتدٍّ وغازٍ. واستثمرتها أخيراً جهات سياسية أخرى. كذلك أغنية “لعيونك”، التي يرفض الناس أن يصدقوا أنها ليست لرفيق الحريري، ولم تروج لشخص أو مشروع، ولو بثها “تلفزيون المستقبل”، لا سيما أني، وقتها، كنت تخلصت من الإيديولوجيا وقررت ألا أكون عبداً لها. الأغنية، بلغتها الموسيقية وشخصياتها، خارجة من الأزقة البيروتية، لا من صالونات السياسة. كتبت الكلام عن سابق تصور وتصميم، لأقول للناس: “كفانا نواحاً على الماضي اللعين، لن ننساه لأننا جزء منه، إنما لنا المستقبل… المستقبل الفعلي لا القناة”.

لكن لا يمكن الإنكار أن أغنياتك شكلت هوية “تلفزيون المستقبل” والجهة السياسية خلفه؟

هناك دائماً جهوزية لتصنيف الناس وقولبتهم. ثمة من وجد في رفيق الحريري صيداً سهلاً وثميناً لتفريغ إحباطاته. رجل جاء إلى البلد في وقت فقدان اليسار لقضيته. لا أمجّد رفيق الحريري، لكنه، في رأيي، عمل من أجل البلد من دون “عرض عضلات” مثلما فعلت أحزاب يسارية وقومجية. انطلق في مشروعه الذي يمكن نقاشه مطولاً، لا سيما أننا نعرف الجدل حول مشروع وسط بيروت وحقوق المالكين القدامى. لكني أرى، أن الحريري، لو لم يُعِد إعمار وسط بيروت، لكانت الكلاب الشاردة ما زالت تجول بين ركامه حتى اللحظة… ولتحوّل مادة دسمة للمحبطين ليكتبوا فيه الشعر.

لكن السؤال لا يتمحور حول من أعاد بناء البلد وكيف، بل: من المسؤول/المسؤولون عن تدمير لبنان؟ من سمح بأن تكون بيروت مساحة لتصفية الحسابات؟ من داس على براعم ديموقراطية بدأت تزهر في بيروت العام 1973. من قتل الناس؟ ومن حول التنوع الديني متاريس طائفية؟

أغنياتي كانت للمستقبل الفعلي، أكثر مما هي للتلفزيون وتياره. لم أغنّ لرفيق الحريري. خاطبت الشباب: “روح شوف مستقبلك”، الوجدان الشعبي. والأغنية تشبه ما ما ألفته لإذاعة “صوت الشعب”، فقلت: “صوتك مش صدى جاي من المدى، صوتك صوت الشعب ومملّي الفضا”… ولنفترض أن أغنية “لعيونك” بثتها “إل بي سي”، أما كانوا سيسمونها بصبغة سياسة أيضاً؟

ألم تخش الصبغة السياسية عندما عملت في “تلفزيون المستقبل” وألفت هذه الأغنيات؟

بالطبع لا، كنت أراهن على القيمة الفنية للأغنية. إنما المشكلة مجدداً في تصنيف الناس. فالأوساط اليسارية تعتبرني مرتداً، وبالنسبة إلى “تيار المستقبل” أنا يساري، كما لا يرى الطائفيون أبعد من طائفتي بغض النظر عن مبادئي.

هل يعني هذا أنك تخففت من “القضية الكبرى”؟

تماماً، أعلنت مع نهاية الحرب اللبنانية انسحابي من الإيديولوجيا، بمعناها الصنمي والجاهز، وانطلقت باحثاً عن مشاريع فنية وثقافية جديدة، من دون أن يلغي ذلك أعمالي السابقة، بل هو امتداد له. الجوهر هو رغبتي بأن أكون مع المظلوم ومع وجع الناس…

في الواقع، أني في ذروة الإحباطات لم أقبل بمساكنة الهزيمة. أذكر أن والدي قال لي عندما اجتاح الإسرائيليون بيروت: “ضليت تقول “أناديكم” حتى صاروا تحت البيت. سمعك الكل، ووحده العدو لبى النداء”…. وأفكر الآن أننا كنا حالمين وكان حلماً جميلا، نحن من لم يحمل السلاح، وحملنا القضية، خسرنا القضية، وقبلنا الخسارة، وامتلكنا الجرأة بأن نعترف أين أخطأنا وأين أصبنا.

اليوم، أين تقف مما يحصل في سوريا؟ والعنف المتبادل؟

أنا مع ثورة أي انسان وأي مظلوم… ومن قال إن الثورات جميلة؟ ثمن الثورات غالٍ، وهي ليست جميلة إلا في الأغاني والشعر. ما يجري في صورة اليوم هو مقتلة. ومن ناحية أخرى يراودني سؤال جائر عادة ما يطرحه اليساريون: ما هو مشروع الثورة والثوار اليوم؟ وأفكر هل أعطي هؤلاء الفرصة ليتعرفوا على بعضهم البعض، ويتفاعلوا، كي يكوّنوا مشروعاً؟ هل تركت لهم الأنظمة القمعية مجالاً للتفكير؟ هم الذي يحاولون التنفس من تحت القمع نطالبهم اليوم بمشروع سياسي متكامل؟

هل تتابع نتاجات الثورات الثقافية والفنية؟

أتابع بعض الأعمال والفرق الشبابية، لا سيما البديلة. أرى بارقة أمل في الوعي، ثقافياً واجتماعياً وفنياً. من ناحية أخرى، أجد أن الإنفعال يطغى على بعضها. ستعيش الأعمال بقدر ما تحمل من قيمة جمالية، لا بإنفعاليتها أو النقد أو الموقف السياسي. ولفتني أيضاً الهتاف الذي يتحول إلى أغنية، على طريقة القاشوش في سوريا، وفعلياً هو خارج من “ردّية” شعبية صادرة عن الوجدان الفولكلوري، وتحولت مع مالك جندلي إلى سيمفونية. وهذا ما يؤكد أن الأعمال الكبيرة تبدأ من تفاصيل صغيرة.

هل تتخذ موقفاً مع أو ضد الفنانيين بمعيار السياسة أو حتى الأخلاق؟ ما رأيك في تصنيفهم في قوائم “عار” و”شرف”؟

لا أرضى بأي تصنيف، ولا أحتمل التعميم. عشت التجربة وطالتني توصيفات حكمية قاسية، كأن تذاع أغنية لي ويستبقها المذيع بتعليق: “العمل للفنان أحمد قعبور الذي نحب فنه”… فنّه فقط. من جهة ثانية، أسجل عتباً على بعض الفنانين، من دون أن أعطي نفسي الحق في المحاسبة. أفكر بالمخرج السوري نجدت أنزور مثلاً، الذي صوّر لنا في “أخوة التراب” معاناة القمع والقتل، وها هو اليوم يقف في المقلب الآخر. ودريد لحام أيضاً، الذي يعتب عليه “غوار” نفسه، قبل أن نعتب عليه نحن.

جديدك يضع الإيديولوجيا والشعارات السياسية جانباً، ويركز على لقمة العيش والحرية. هل ثمة تعريف جديد للأغنية السياسية أو الملتزمة؟

لا ألتفت في عملي الجديد الى شعارات “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” و”وحدة الصف العربي”، وذلك بعد مراجعة لتجربتي وتجربتنا. كنا نرفع هذه الشعارات وما كان هناك بلد موحد من داخله… ونحن نحلم بتوحيد الأمة! أما الأغنية الملتزمة فلها تعريفات مختلفة، وهي بالنسبة إلي تلك المهتمة بالعدالة والإنسانية.

قبل 37 سنة، غنيت “الشمس تأكل لحمهم لكنهم يعاندون الشمس، إنهم جنوبيون”. وعدت بعد ثماني سنوات لأغني للجنوبي، لإنسان من لحم ودم: “وقلّها إنو الحاج محمد مشتاق لبيته ورفقاته بحي السلم، ما اتهنّوا اشتاقت عينو لتراباته (أغنية يا رايح صوب بلادي)”. هكذا عدت لألحظ الأماكن والناس، لا الشعارات. في إنطلاقتي، كان الجنوب، كفكرة ورمز، شعاراً ذا طابع وطني وقومي، وما زال. لكني كبرت، فصرت أرى الناس من لحم ودم. لم تعد الإيديولوجيا دافعي للغناء. نضجت سياسياً وفهمت أن الأغاني منابعها إنسانية.

في مطلق الأحوال، العمل الجديد تجول فكرته في بلدان تشهد حراكاً شعبياً، أقارن فيها المشترك في معيشتنا اليومية، وما يفرقنا في الإيديولوجيا والسياسة. تنتقل الأغنية من إيران إلى لبنان إلى حلب إلى البحرين إلى مصر… وطبعا كما “بدي غني للناس”، سأنتجها بنفسي، لأني أظن أن أي طرف لن يتحملها.

تقول الأغنية: “طعميني كعك العباس، شو بدي بالنووي، أما الكيماوي شو بينفع للصفوي والأموي/ طعميني يا ام اسماعيل من ايدك طعميني طعمية، عطشان قدام النيل نصبّح ع الحرية/ كل ما الناعورة بتدور، بتزعزع العروش، وسوريا رح تبقى تغني بحنجرة القاشوش/ دخليك يا أمينة لميني، من وجعي رح موت، خبيني بقلبك حطيني، قلبك بيتي بيوت، اشترولي وباعولي ديني، كيف على بيتي بفوت، حبيني دخلك داريني تـأبقى ببيروت/ خبز وكرامة وحرية حق المقهورين، عجم فرس وأعاجم وحوّل ع فلسطين”.

وهل فلسطين اليوم معنية بالحراك العربي؟ أم أنها القضية المنسية؟

لا أحد معنياً بتحرير فلسطين اليوم، إلا من ينجح بتحرير نفسه. اليوم نرى شباناً وشابات فلسطينيين أكثر وعياً اتجاه القضية الفلسطينية، وهم معنيون بالحراك العربي بقدر ما هم معنيون بمواجهة العدو الإسرائيلي. ما نحتاجه اليوم هو إعادة تعريف العدو. من هو العدو؟

لكن هذا السؤال في حد ذاته “خطيئة” في العالم العربي، ويدفع إلى تخوين من يسأله…

أعرف، إنما أنا أسأل: من العدو؟ في رأيي كل قاتل عدو. من قتل أطفال قانا وكفرقاسم ورأس النبع وبانياس. القتلة يتضامنون، وإن كنا أحياناً نشهد تضارب مصالح بين قاتلين، كما يحصل الآن. نحن لا نساوي بينهم، إنما هناك حاجة إسرائيلية كبيرة لقادة قتَلة في العالم العربي.

بيروت المثقفين والفنانين، بيروت عمر الزعني، هل ما زالت هي نفسها بالنسبة إلى أحمد قعبور، وقد تحولت “مرتعاً” لبرامج الهواة وإنتاج المغنين والمؤدين بالجملة؟

التلفزيون والميديا الحديثة غيّرا المشهد الفني والثقافي في العالم كله، وطبعا في لبنان. بتنا نتعرف على أي عمل جديد عبر الشاشة. هكذا فرضت الميديا نمطاً إستهلاكياً للإنتاجات الفنية، وتتحدد قيمتها وفق معادلة العرض والطلب، لا وفق القيمة الفنية والجمالية. وبطبيعة الحال بتنا نرضخ لسيل من التفاهة، فقط لأنها تجذب الإعلانات. الميديا عينها لا تضيء كثيراً على تجارب بديلة وأغنيات ملتزمة، أو غير تجارية إن أمكن القول. لهذا أنا، كما كثيرين، بتّ أراهن على “يوتيوب” للتحرر من قوالب الميديا ومن أي صبغات وأي سقف.

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة